ترامب وصناعة الأزمات: قنبلة المهاجرين نموذجاً

16 يناير 2018
أثارت عبارة ترامب فيضاً من الردود والإدانات (فرانس برس)
+ الخط -
العلامة الفارقة لرئاسة دونالد ترامب حتى الآن، والأرجح حتى النهاية، أنها مصنع فريد للأزمات. لم تتميّز فقط بمفاقمة الأزمات التي ورثتها، بل أضافت إليها رزمة غير مسبوقة من التوترات الداخلية والخارجية التي شملت احتمال مواجهة نووية، وكاد أن لا يخلو أسبوع من العام الأول لوصول ترامب إلى البيت الأبيض، من إثارة زوبعة أو تفجير مشكلة فرضت حبس الأنفاس.

وفجّر ترامب، قبل أيام، قنبلة جديدة، في حديثه عن الهجرة والمهاجرين، لا تزال تتفاعل إلى الآن. ففي جلسة مع عدد من النواب واثنين من مجلس الشيوخ من الحزبين، يوم الخميس الماضي، للبحث في مشروع قانون جديد لتنظيم الهجرة، تساءل ترامب وبازدراء، عن مبرر الاستمرار في قبول مهاجرين من بلدان وصفها بـ"القذرة"، كهايتي وأمثالها، و"ليس من دول مثل النرويج؟!". ويوضح مضمون ما قاله أنه ضدّ تجنيس المزيد من ذوي البشرة الداكنة، ومع استبدالهم بالمهاجرين البيض. وكان لعبارته هذه وقعاً مدوياً. فصحيح أنها ليست المرة الأولى التي يفصح فيها عن كوامنه التمييزية العرقية، لكن ليس بهذه الفجاجة الفاقعة وما انطوت عليه من إهانة شاملة وفوقية، أثارت قلقاً واسعاً حتى في أوساط الجمهوريين، لما يترتّب عليها من عواقب محلية وخارجية مؤذية، ومفتوحة على أزمات ومتاعب شتى.

وتعليقاً على الانتقادات التي انهالت عليه، ردّ ترامب بالتأكيد مجدداً على أنه "ليس عنصرياً". وقال للصحافيين، الأحد، في نادي ترامب الدولي للغولف في وست بالم بيتش بفلوريدا، حيث كان يتناول العشاء مع زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس النواب كيفن مكارثي: "أنا لست عنصرياً. أنا الشخص الأقل عنصرية الذي تُقابلونه".

وكان ترامب قد حاول، يوم الجمعة الماضي، التنصل من توصيفاته، إذ نفى في تغريدة على "تويتر" التعبير الذي كانت نسبته إليه صحيفتا "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز"، إلّا أنّ عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي ديك دوربن الذي حضر الاجتماع، أكّد أيضاً أنّ الرئيس استخدم تعبير "حثالة الدول" مرات عدة.


وتعبّر تصريحات ترامب عن تنامي المجاهرة بالنعرة العنصرية وإحياء ثقافتها في أميركا. لكن موجة التصدي لها جاءت عارمة، فعبارته أثارت فيضاً من الردود والإدانات، كما سلّطت الأضواء على الخلافات حول موضوع الهجرة، وهي خلافات مزمنة استعصت على الحلّ، بسبب التضارب في مقاربة الموضوع بين الديمقراطيين والجمهوريين.

ورغم أنّ كلاهما على توافق بأنّ أميركا أصلاً بلد مهاجرين، والذين هم مكوّن أساسي في تركيبتها، وكلاهما يرى ضمناً بأن هؤلاء هم طاقة لطالما ساهمت في تشغيل آلة الإنتاج وتنشيط ماكينة الاستهلاك، إلّا أنه إلى هنا وينتهي التلاقي بينهما.


ويرى الفريق الأول، الديمقراطي، أن أهمية هذه الطاقة تكمن في تنوّعها، في حين يرى الثاني، الجمهوري، أن أهمية الهجرة في نوعيتها وفي كفاءة المهاجرين. لكنّ شرط الجدارة هذا، يغطّي مقصده، فالخندق المحافظ يؤكد على ضرورة التجانس مع المهاجرين الأوروبيين الأوائل الذين يعيد رموزه، مثل باتريك بيوكانن، التذكير بهم وبضرورة الحرص على تأبيد تراثهم، وبذلك تعمّق التضارب بين نموذج الخليط ونموذج الانتقاء الهادف إلى حماية الصفاء العرقي. وهنا يكمن أصل الخلاف، والباقي سياسي واقتصادي.
فالحزب الديمقراطي تعتمد قوة قاعدته، إلى حدّ بعيد، على الأقليات والخليط الإثني، أمّا الحزب الجمهوري، فيعتمد على البيض بشكل عام، ويعمل على التحريض ضد التقديمات والمساعدات التي يتلقاها فقراء المهاجرين بزعم أنها تحصل على حساب دافع الضرائب في وقت تعاني فيه الموازنة من عجز متواصل ومتزايد.
صحيح أن هناك معونات مكلفة لقسم من فقراء المهاجرين، إلا أنّ الإحصاءات تكشف عن أن غالبية المهاجرين من غير أصحاب المهن والكفاءات منخرطون في دورة العمل ويدفعون ضرائب بالمليارات. لكن بالنسبة للفريق المحافظ، تتقدم الهوية "الصافية" على قيم الحرية والانفتاح والدمج الإثني. وترامب ينتسب إلى هذا الخط بدون مواربة، وسبق أن عبّر عنه في أكثر من مناسبة وإجراء.

ففي البداية، حرّض ضدّ القادمين من أميركا الجنوبية وبالتحديد من الجارة المكسيك. ثمّ أعرب عن عزمه على "منع دخول المسلمين إلى أميركا"، فقط لأن مسلمين ينتمون إلى "داعش" قاموا بعمليات إرهابية. وبعدما أوقف القضاء قراره لعدم قانونيته وبعد توليه الرئاسة، تراجع عن التعميم عملاً بنصيحة مستشاريه وحصر المنع بست دول إسلامية، لكنه لم يغادر التوجه.

وفي الداخل، قدّم ترامب الغطاء للقوميين البيض في تظاهرتهم العنصرية الدامية في مدينة شرلوتسفيل القريبة من واشنطن، كما رفض حسم مصير حوالى 800 ألف مقيم من الذين قدموا إلى أميركا في سنّ دون السادسة عشرة، معظمهم من بلدان أميركا اللاتينية وما زالوا مقيمين وعاملين فيها ويطلق عليهم لقب "الحالمين"، والذين ينعقد شبه إجماع على ضرورة منحهم حق الإقامة الشرعية "لأنهم لا يعرفون غير هذا البلد، ويساهمون في دورته الإنتاجية اليومية". لكن ترامب غير موافق على ذلك، إلا إذا وافق الكونغرس على تمويل الجدار العازل مع المكسيك.


وليست حالة الهجرة والمهاجرين غير المنصفة ولا المتوازنة في أميركا اليوم، سوى جزء من المشهد الأميركي المضطرب عموماً في هذا الوقت. فما أن تغيب مشكلة حتى تظهر أخرى، مع ما يرافق ذلك من عجز عن تقديم الحلول. ويعزز الخشية من العجز والتخبط ما حصل في ولاية هاواي، قبل أيام، عندما أُطلقت صفارات الإنذار، داعية المواطنين للتوجه إلى المخابئ لدرء خطر هجوم صاروخي عابر للقارات، وتطلّب الأمر 38 دقيقة لتطمين الجمهور واكتشاف خطأ الإنذار. ويمثّل ذلك فضيحةً من العيار الثقيل والذي يؤكّد أن الأمور ليست على ما يرام وأن الفوضى تسود. ربما لأن واشنطن اليوم "لم تستوعب تعقيدات اللحظة الراهنة"، وتلجأ بسبب ذلك إلى "شخصنة الأمور واختلاق الأزمات لتغطية القصور في التعاطي معها"، كما يقول أندرو يونغ، السفير الأميركي الأسبق في الأمم المتحدة. والأرجح أنه محق.