مليونا فلسطيني في غزة... لا حياة ولا موت

22 فبراير 2018
من احتجاج ضد حصار غزة (عبد الحكيم أبو رياش)
+ الخط -
يجلس أبو محمد حبيب (54 سنة) على باب متجره الصغير لبيع البهارات والأعشاب في سوق الزاوية وسط مدينة غزة، بانتظار أول "زبون". عند الساعة الحادية عشرة صباحاً كان أبو محمد يضرب كفاً بكف، إذ لم يطرق باب محله أي زبون، في ظل حركة "سيئة" لسوق الزاوية، والأسواق عموماً، في القطاع الساحلي المحاصر. وبات الحال في غزة صعباً وقاسياً. ولم يعد أحد من المليوني فلسطيني الذين يعيشون في القطاع المحاصر بعيد عن الأزمات الاقتصادية والمعيشية والإنسانية التي أضحت تضرب عصب الحياة، ومعها تتزايد متطلبات الحياة، التي بات كثير من الأسر الغزية غير قادر على توفيرها.

يقول أبو محمد، لـ"العربي الجديد"، "منذ بدء الحصار على غزة، قبل 12 سنة، ونحن نعاني، بين مد وجزر، أحيانا تنخفض المعاناة وأحيانا تصل لذروتها. اليوم نحن في قمة الذروة والحصار والمعاناة، ولم يعد من الممكن أن تستمر الحياة بهذه الطريقة". ويشير بيديه إلى السوق الذي بدا فارغاً من المشترين، إلا من قلة يعبرونه للوصول إلى طرفه الآخر. ويؤكد الرجل أنّ الحياة في غزة باتت لا تحتمل، وباتت متطلبات الحياة صعبة، وكثير من الأسر لم يعد بمقدورها تدبر أمورها. وعندما بدأت إسرائيل حصار غزة، عقب فوز حركة "حماس" بالانتخابات وتشكيلها الحكومة، سربت الصحافة الإسرائيلية ملامح التعامل مع القطاع، وذُكر في حينه أن الاحتلال الإسرائيلي يستخدم "القطارة" في تعامله مع احتياجات غزة. والقطارة مصطلح يعني دخول بضائع لا تكفي الحاجة، لكنها ليست معدومة في الأسواق. ويمكن القول إنها كانت سياسة "لا حياة ولا موت". لكن اليوم يحصل عكس ذلك تماماً، إذ تدخل مختلف أنواع البضائع وبكثرة، لكن السيولة النقدية لدى أهالي غزة معدومة، في ظل الإجراءات الأخيرة للسلطة الفلسطينية والانهيار التجاري والاقتصادي الغير مسبوق.

ورغم ذلك تستمر إسرائيل في منع معظم المواد الخام من الدخول إلى القطاع المحاصر، بزعم أن لها استخدامات مزدوجة، ويمكن لفصائل المقاومة أنّ تستفيد منها في تطوير قدراتها، ما أدى لتوقف كثير من المصانع عن العمل وتسريح العمال. ويستمر تعثر المصالحة الفلسطينية، رغم وجود وفد رفيع المستوى من "حماس" في القاهرة، إلا أنّ المؤشرات تدلل على أنّ الزيارة لم تُنتج شيئاً على أرض الواقع حتى الآن. كما أنّ وفداً رفيعاً من حركة "فتح" كان متواجداً في القاهرة، بالتزامن مع وجود وفد "حماس"، لكنهما لم يلتقيا. وتلوح "حماس" بعصا التعامل مع القيادي المفصول من حركة "فتح"، محمد دحلان، في وجه الرئيس محمود عباس، لكنها داخلياً لا تريد هذا الخيار، وإن تفاهمت مع دحلان على بعض النقاط التي جرى تجميدها عقب بدء تطبيق تفاهمات المصالحة الوطنية التي تعاني تعثراً واضحاً وأزمة ثقة أكبر من ذي قبل.


وقبل أيام، أعلن رئيس حكومة "الوفاق" الوطنية، رامي الحمد الله، أنّ الحكومة ستبدأ باستيعاب 20 ألف موظف من الذين عينتهم "حماس" عقب الانقسام، لكن الأمر مرتبط بتطبيق الحركة التزامات متعددة في القطاع، وهو ما لا تستطيع فعله قبل ضمان حقوق موظفيها الخمسين ألفاً. ولم يعط التصريح أي ردود فعل إيجابية من قبل الموظفين في غزة، الذين يهددون باستمرار التصعيد الميداني وإيقاف العمل الحكومي لساعات في بعض الأيام، والقيام باعتصامات واحتجاجات على ما يسمونه "تجاهل الحكومة أوضاعهم". ولم تترك الأزمات أي جانب في غزة من دون الوصول إليه والتأثير فيه. وباتت ساعات قطع الكهرباء تصل في بعض الأوقات إلى 20 ساعة يومياً، ومعها أيضاً المياه، المرتبط وصولها لمنازل المواطنين بساعات وصول الكهرباء المتناقصة.

ولعل التأثير الأخطر، في أزمات كلها خطيرة، يتعلق بالقطاع الصحي الذي يبدو وكأنه ينهار شيئاً فشيئاً في ظل صمت "مريب" من كل الأطراف المحلية والدولية على الأزمة التي تطاول المرضى وتؤثر في حياتهم. وجرى تقليص عدد العمليات المجدولة في المستشفيات الرئيسية في القطاع، نتيجة نقص المستلزمات الخاصة بها. كما أنّ عمال النظافة، في الشركات المتعاقدة مع المستشفيات، توقفوا عن العمل، بعد أنّ تعذر على الشركات دفع رواتبهم، نتيجة عدم حصولها على مستحقاتها المتراكمة على الحكومة، ما أحدث فوضى غير مسبوقة. ويشير المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة، الطبيب أشرف القدرة، لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ الوضع الصحي في القطاع المحاصر دخل مرحلة صعبة وقاسية، بعد وفاة عدد من الأطفال المرضى في الحضانات نتيجة عدم توفر "السيرفاكتنت" الذي يساعد الخدج على التنفس، نظراً لعدم اكتمال نمو الجهاز التنفسي لديهم. ويلفت القدرة إلى أنّ الواقع الصحي يعاني كثيراً بسبب اشتداد أزمة الوقود وشح الكميات المتوفرة التي لا تكفي، وفقاً لتقديرات المؤسسات الدولية، إلا لأيام معدودة، في الوقت الذي توقفت فيه محطة توليد الكهرباء الوحيدة عن العمل بشكل كلي ليلة الأربعاء الماضية، ما أدى إلى زيادة ساعات قطع الكهرباء.

وتعمل غالبية مستشفيات قطاع غزة والمستوصفات الطبية الحكومية والأهلية على مولدات كهربائية تستهلك عشرات الليترات من الوقود في الساعة الواحدة، وهي تحتاج إلى تكلفة مالية كبيرة لا تستطيع معها أي جهة أهلية توفيرها. ويقول القدرة إنّ هناك خشية حقيقية لدى القائمين على القطاع الصحي بغزة من التحول إلى الخطة "سي"، التي تقوم على تشغيل الأقسام الحساسة فقط في المستشفيات الرئيسية، من دون إيصال الكهرباء إلى باقي الأقسام. ويحذر من أن القطاع الصحي بغزة، الذي يعاني من الحصار الإسرائيلي المشدد للعام الثاني عشر على التوالي، يقترب من حالة الانهيار التام، في ظل عدم وجود تحرك فوري وعاجل لإنهاء الأزمات المتعددة التي تعصف بهذا القطاع الحساس الذي يمس بحياة أكثر من مليوني فلسطيني. وباتت وزارة الصحة والمختبرات التابعة لها عاجزة عن تلقي الدم من المتبرعين حالياً، بسبب عدم توفر المواد المخبرية التي من شأنها فصل مركبات الدم ومشتقاته عن بعضها بعضاً، إذ وصلت نسبة العجز في المواد المخبرية إلى أكثر من 58 في المائة، وفق القدرة. وبينما تضرب الأزمات واحدة تلو الأخرى مفاصل الحياة الرئيسية في القطاع، يتهدد خطر ما بات يُعرف بـ"صفقة القرن" القضية الفلسطينية كلها. وبات السكان والفصائل يعتقدون أنّ ما يجري محاولات لترويض الفلسطينيين قبل إطلاق مشروع تصفية جديد للقضية الفلسطينية.

المساهمون