سورية: 50 عاماً من الحصانة والإفلات من المحاسبة

11 مارس 2017
لا تسمح القوانين بمحاكمة جنود النظام (جورج أورفليان/فرانس برس)
+ الخط -

تبدو مساعي الأمم المتحدة لجمع آلاف الوثائق الرسمية التي نقلها سوريون إلى خارج بلادهم مجازفين بأرواحهم، في بنك معلومات يضم أدلة على ارتكاب جرائم حرب في سورية، أحدث المحاولات لوضع حد لسياسة الإفلات من العقاب والحساب التي أمن أركان النظام السوري على مدى عقود في استخدامها مقابل الاستمرار في ارتكاب مزيد من الجرائم.

واجتمع في لاهاي، أول من أمس، أكثر من 150 خبيراً ودبلوماسياً، إضافة إلى ممثلين عن منظمات غير حكومية ومدعين عامين في عدد من الدول، ووجهوا نداء لدعم "الآلية الدولية المحايدة والمستقلة لسورية"، وهي عبارة عن بنك معلومات انشأته الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، لمواكبة التحقيقات والملاحقات الجارية ضد مرتكبي جرائم حرب في سورية.

وقال وزير الخارجية الهولندي، برت كوندرز، الذي دعا إلى عقد الاجتماع حول بنك المعلومات، إن هناك ملايين الصفحات وكميات هائلة من المعلومات المخزنة الكترونياً، هي عبارة عن أدلة وشهادات جمعها محققون وتحتاج للجمع والتنظيم والتحليل. وأشار إلى أن بنك المعلومات هذا سيتيح إعداد ملفات موثقة "بحق مرتكبي أسوأ الجرائم التي يمكن تخيلها" في هذه الحرب. وأوضح أن ضابطاً في الشرطة العسكرية السورية تمكن من الفرار من بلاده بعد أن أخفى في جواربه مفاتيح "يو اس بي" تتضمن 28 ألف صورة لجثث أشخاص قتلوا في سجون نظام الأسد. كما أن موظفاً سورياً ألصق على جسده نحو ألف صفحة تمكن من إخراجها من سورية، وهي تضم صوراً عن أوامر صادرة عن سلطات عليا تدعو إلى استخدام العنف الأعمى. وقال إنه يريد أن يرى كل المسؤولين عن جرائم الحرب يقدمون إلى القضاء في لاهاي، أو يقدمون إلى القضاء في البلدان التي انتقلوا إليها بعد مغادرتهم سورية، معتبراً أن هذه الآلية ستساعد المدعين العامين في العديد من البلدان في "العثور على هؤلاء الأشخاص وملاحقتهم وتوجيه التهم إليهم".

وعلى الرغم من هذه المساعي، لفت رئيس "المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية "، المحامي أنور البني، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنه "لا تتوافر حالياً أي قناة قانونية لمحاسبة مرتكبي الجرائم في سورية". وأشار إلى أن "العقبة الكبرى بوجه إحالة تلك الجرائم إلى محكمة الجنايات الدولية هو الفيتو الروسي، إذ يستميت الروس في منع تحويل تلك الجرائم (إلى المحكمة)، لأنها ستطاولهم بشكل أو بآخر". وأكد أن "القوانين السورية لا تسمح بتحريك أي دعوى أمام أي محكمة بحق عناصر المؤسسة العسكرية في النظام، وحتى السياسية والإدارية". ولفت البني إلى أن "هناك جهوداً كبيرة تبذل برفع العديد من القضايا أمام المحاكم الوطنية في العديد من الدول، مثل ألمانيا وإسبانيا".

من جانبه، قال مدير "المركز السوري للإعلام وحرية التعبير"، مازن درويش، في حديث مع "العربي الجديد"، "حالياً لا توجد إمكانية لإحالة هذه الجرائم إلى محكمة الجنايات الدولية، لأن سورية غير موقعة على معاهدة روما، من دون إحالة من مجلس الأمن"، لافتاً إلى وجود إمكانية "لرفع دعاوى بالاستناد إلى الاختصاص العالمي للقضاء المحلي بالدول الأوروبية، وخيارات أخرى ممكنة". وأضاف "كما أن هناك إمكانية لإقامة محاكم دولية خاصة، أو مثل محاكمات البوسنة التي كانت روسيا معارضة لها، والمحكمة الخاصة بمقتل رفيق الحريري، وهذا يتطلب إرادة من عدة دول، ومن مجلس حقوق الإنسان. الآن هناك قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة خاص بالمحاكمات بسورية، وهناك كثير من العمل الهادف لتطبيق هذه المحاكمات". 

وعندما يبدأ الحديث عن الجرائم التي يتهم بها النظام السوري، نعود بالذاكرة لنحو 50 عاماً مضت، لتروى آلاف الروايات والشهادات، منذ تخلص الرئيس السابق، حافظ الأسد، من معارضيه وشركائه في بداية سبعينيات القرن الماضي، عبر الاغتيالات والمحاكمات الصورية عبر المحاكم الاستثنائية، مثل "محكمة أمن الدولة ومحكمة الميدان العسكرية"، والاعتقال القسري، أمثال صلاح جديد، أحد أهم القيادات البعثية التي أوصلت حزب "البعث العربي الاشتراكي" إلى السلطة، والذي قضى في المعتقل عقب 23 عاماً من الاعتقال.

وتتوالى حالات الاعتقال والاختفاء القسري، والمجازر، من أبرزها مجزرة سجن تدمر عام 1980، وتلتها عدة مجازر فيه، قتل فيها مئات السجناء، ومجزرة حماة عام 1982، التي تقدر بعض الجهات أن عدد الضحايا الذين سقطوا فيها قد يصل إلى 40 ألفاً، معظمهم من المدنيين، واختفاء 15 ألف مدني، في حين اضطر نحو 100 ألف شخص للنزوح عن مناطقهم، ومجزرة صيدنايا عام 2008 التي راح ضحيتها العشرات، إضافة إلى عشرات القتلى في أحداث السويداء عام 2000، والقامشلي عام 2004. أما بعد بداية الثورة في عام 2011، فقد أفرط النظام باستخدام العنف، إذ يتهم من قبل ناشطين بقتل نحو 500 ألف شخص، جزء منهم في المعتقلات، بسبب التعذيب وسوء الرعاية الصحية، بالإضافة إلى الإعدامات، نتيجة محاكمات صورية تهدف إلى التخلص من معارضيه. وقد وثقت العديد من الجهات والمنظمات هذه الانتهاكات، منها الصور التي سربها العسكري المنشق "القيصر" لـ11 ألف معتقل ماتوا في السجون، وآخرها تقرير منظمة العفو الدولية الخاص بسجن صيدنايا، والذي بين أن نحو 13 ألف حالة إعدام تمت داخله، بشكل غير قانوني، ولتمر كل هذه الجرائم من دون أي تحقيق أو محاسبة. 

وعمل النظام، وعلى رأسه الأسد الأب والابن، على إحكام سيطرتهما على سورية، وتأمين حمايتهما وأتباعهما من أي مساءلة أو ملاحقة، دستورياً وقانونياً، إذ بدأها الأسد الأب مع استلامه للسلطة بعملية انقلابية في العام 1971، عبر دستور عام 1973 الذي منحه صلاحيات مطلقة. ونص، بموجب المادة 91 منه، على أنه "لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولاً عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه، إلا في حالة الخيانة العظمى، ويكون طلب اتهامه بناء على اقتراح من ثلث أعضاء مجلس الشعب على الأقل، وقرار من مجلس الشعب بتصويت علني، وبغالبية ثلثي أعضاء المجلس بجلسة خاصة سرية، ولا تجري محاكمته إلا أمام المحكمة الدستورية العليا". وبالطبع لا يوجد نص قانوني خاص بقانون العقوبات على جرم يسمى "الخيانة العظمى"، في وقت هو الذي يعين أعضاء مجلس الشعب فعلياً عبر مسرحية انتخابية، كما أنه يعين أعضاء المحكمة الدستورية المفترض أنهم سيحاكمونه.

وتمسك الأسد الابن بالحماية الدستورية، إذ أقر دستور 2012، في مادته 117، ذات الأمر الذي نصت عليه المادة 91 من دستور والده. كما ضمن دستور عام 1973 حماية الموالين للأسد، وجعلت المادة 117 والمادة 123، رئيس مجلس الوزراء والوزراء مسؤولين أمام رئيس الجمهورية، وهو من يحق له إحالتهم إلى المحاكمة، الأمر ذاته أقره دستور عام 2012. وعمل الأسد على حماية أعضاء مجلس الشعب عبر منحهم حصانة، عبر دستور 1973 في مادته 67، الأمر الذي كرره دستور 2012 في المادة 71 التي نصت على "يتمتع أعضاء مجلس الشعب بالحصانة طيلة مدة ولاية المجلس، ولا يجوز في غير حالة الجرم المشهود اتخاذ إجراءات جزائية ضد أي عضو منهم، إلا بإذن سابق من المجلس، ويتعين في غير دورات الانعقاد أخذ إذن من مكتب المجلس". كما لم تغب الحماية عن عناصر مؤسساته العسكرية، في الجيش والأجهزة الأمنية، إذ ينص قانون أصول المحاكمات العسكرية، الصادر بالمرسوم 61 لعام 1950، على لزوم الحصول على إذن بملاحقة أي عسكري أمام القضاء من وزير الدفاع أو من يفوضه. كما نصت مواد قانون إحداث إدارة أمن الدولة، الصادر بالمرسوم رقم 14 لعام 1969، على عدم جواز تحريك دعوى الحق العام بأي جرم بحق العاملين في إدارة أمن الدولة قبل الحصول على موافقة مدير إدارة أمن الدولة.

وبدوره، قام الأسد الابن بتوسيع الحماية، وأصدر مرسوماً في العام 2011 لشمل عناصر الشرطة والجمارك والأمن السياسي، التابعين إلى وزارة الداخلية، لمعاملتهم بمثل العناصر العسكرية، أي لزوم الحصول على إذن مسبق من وزارة الدفاع قبل تحريك دعوى الحق العام بحقهم. كما يحمي الأسد الموظفين، ويجعل مصيرهم بيده، عبر حصر إحالة أي ملف فساد أو مخالفات إلى القضاء بيد رئيس مجلس الوزراء المعين من قبل الرئيس، بحسب قانون الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش. وضمن الأسد كذلك حماية الدول والمقاتلين الذين يقاتلون معه، عبر الاتفاقيات التي أبرمها مع تلك الجهات. فعلى سبيل المثال، نصت الاتفاقية مع الروس، بحسب التسريبات، على أن الوحدات العسكرية الروسية تتمتع بالحصانة من الولاية القضائية المدنية والإدارية في سورية، كما لا يحق للجمهورية العربية السورية التقدم بأي طلبات للاتحاد الروسي ومجموعة الطيران الروسي وموظفيه، كما لا يحق لها رفع أي دعوى متعلقة بنشاط مجموعة الطيران الروسي وموظفيها. وتتحمل سورية المسؤولية عن تسوية جميع المطالبات التي قد تطالب بها أطراف ثالثة، نتيجة للأضرار الناجمة عن أنشطة مجموعة الطيران الروسي وموظفيها.


المساهمون