"كان بالإمكان إنقاذ الكثيرين منهم، لكن محاولة القوات العراقية المشتركة التكتم على المجزرة، سببت مجزرة أخرى"، بهذه الكلمات بدأ المسعف خالد سليمان خوشناو، أحد أعضاء فريق الدفاع المدني الذي كتب له أن يكون أول من كشف عن الجريمة الأكبر في العراق منذ احتلاله عام 2003. فقد خلّف القصف الأميركي على حي الموصل الجديدة في الساحل الأيمن للمدينة، عصر الجمعة 17 مارس/ آذار الحالي، مئات القتلى والجرحى، ولا يزال العدد مرشحاً للارتفاع مع استمرار عمال الإنقاذ برفع الأنقاض وسقوف المنازل.
ولم تتوفر حتى الآن أرقام رسمية بشأن حصيلة المجزرة، من قبل حكومة بغداد أو "التحالف الدولي". والحقيقة الوحيدة هي جثث 520 شخصاً، معظمهم نساء وأطفال، عثر عليهم تحت ركام منازلهم، من بينهم 185 طفلاً، هم دون الخامسة عشرة، و41 عائلة أبيدت بالكامل. حقيقة خلاصتها أن ما عاشته الموصل يمكن تعريفه بالإرهاب المضاد أو المعاكس لإرهاب تنظيم "داعش"، بطائرات هذه المرة لا بفؤوس ولا بخناجر، وبقرار رسمي يسمّى غالباً في أدبيات الجيوش "إحداثيات خاطئة" لم تعد تقنع كثيرين. ويبقى الأكيد أن تعاطي دول وقوى عالمية مع شعب كامل على أنه "إرهابي مفترض"، لن يزيد إرهاب "داعش" إلا قوة وتمدداً.
في صبيحة يوم الأربعاء 15 مارس/ آذار الحالي، ألقت طائرة من طراز "مي 35" روسية، تابعة لسلاح الجو العراقي، منشورات على مناطق باب الطوب وباب البيض والرسالة ونابلس والموصل الجديدة تطالب السكان الموجودين داخل المنازل برفع أعلام بيضاء على أسطح منازلهم لتمييز المنازل المأهولة بالسكان من غيرها. وهذا ما حصل، إذ تم رفع الأعلام البيضاء على غالبية أسطح المنازل في تلك المناطق. إلا أن تلك المنشورات لم تتعد كونها سياقاً روتينياً ضمن حملة إعلامية يومية يتم إلزام المحطات والوكالات الإخبارية بها كشرط للسماح لها بتغطية المعركة وما يحيط بها. والنتيجة هي أن المنازل التي رفعت الرايات البيضاء هي نفسها التي تمت تسويتها بالأرض بعد يومين فقط.
أعقبت عملية إلقاء تلك المنشورات معارك عنيفة بين مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) والقوات العراقية ممثلة بجهاز مكافحة الإرهاب، وهو الوحدة القتالية الأكثر موثوقية بالنسبة لقوات "التحالف الدولي". ومعظم عناصره تلقوا التدريب والتسليح على يد الجيش الأميركي. واستمرت تلك المعارك ليومين كاملين دون أن تتمكن تلك القوات من التقدم بسبب كثافة النيران والعمليات الانتحارية. وخسرت قوات مكافحة الإرهاب العديد من أفرادها، من بينهم ثلاثة ضباط برتب متفاوتة، وهو ما قد يعتبر العامل الرئيس الذي دفع آمر الوحدة الموجودة في منطقة الاشتباكات لمطالبة غرفة العمليات المشتركة (المسؤولة عن التواصل مع قيادة عمليات التحالف الدولي) بقصف المنطقة.
وقال ضابط برتبة نقيب في جهاز مكافحة الإرهاب، تم استدعاؤه للتحقيق مع ثلاثة ضباط آخرين، صباح أمس الأحد، في حديث خص به "العربي الجديد"، إنه "في عصر الجمعة الماضي قدمنا خسائر كبيرة في الأرواح، فقام الآمر بإعطاء إحداثيات كاملة للمنطقة وطالب بقصفها على الفور، وهي محيط مستشفى الرحمة وشارع السناجرة وشارع المولدة التي جرت فيها المجزرة الأميركية". وبيّن أن "الجميع كان يعلم، بمن فيهم الضابط، أن المنطقة تغص بالسكان وبأعداد كبيرة جداً، لكن الأمر أعطي بأنها منطقة قصف مفتوحة". وتابع أن "الطائرات الأميركية وصلت بعد نحو 40 دقيقة وحلقت على ارتفاعات متوسطة لفترة قبل أن تبدأ بقصف عنيف للمنطقة، وكان هناك بالوقت نفسه قصف مدفعي للتحالف من معسكر بعشيقة (23 كيلومتراً شرقي الموصل)، واستمرت العملية لنحو ربع ساعة قبل أن تعود طائرة أخرى وتكمل عملية القصف"، بحسب تأكيد الضابط العراقي نفسه. وختم قائلاً إنه "بعد ساعات، دخلنا المنطقة بلا أي مقاومة، وفور دخولنا تم الإعلان عن تحرير الموصل الجديدة وبدأت الاتصالات تنهال علينا لتسأل عن السكان الموجودين في الحي لتقديم موقف"، وفق تعبيره. وأكد أن "أفراد قيادة جهاز مكافحة الإرهاب والفرقة التاسعة بالجيش العراقي والشرطة الاتحادية كانوا جميعاً على علم بمقتل مدنيين لكنهم لم يتخيلوا هذا العدد الكبير، كما أنه كان بالإمكان إنقاذ قسم كبير من الجرحى وانتشالهم من تحت الأنقاض لكن تم التكتم لثلاثة أيام حتى دخول ضابط برتبة عميد في الجيش إلى الحي حيث تسكن ابنة شقيقته فيه ودخل للبحث عنها فاكتشف أن المنازل كلها سويت بالأرض وطالب بدخول الدفاع المدني على الفور"، بحسب رواية الضابط، الذي أعرب عن اعتقاده بأن "المسؤولين كانوا يريدون إخراج الضحايا على شكل دفعات بين يوم وآخر، لكن هذا لم يحصل"، على حد قوله.
قبل ساعات من المجزرة
وبحسب شهادات لسكان محليين، فإن تنظيم "داعش" قام بإخلاء عشرات العائلات التي تسكن على خط الاشتباكات المباشر ونقلها بالقوة إلى عمق حي الموصل الجديدة (محيط مستشفى الرحمة)، وهي بعيدة نسبياً عن مواقع تماس "داعش" والقوات العراقية. وبات كل بيت يحتوي على ثلاث عائلات وأكثر، وبعض المنازل التي تحوي قبواً، كانت تضم أكثر من خمس أسر. وحين قام "داعش" بذلك، كان الوقت الساعة الثانية ظهراً، ليتم استهداف المنطقة في السابعة مساء من يوم الجمعة وبشكل عنيف.
وقال الصحافي الإيطالي، باولو أندرو، الذي يعمل كمصور وهو يمضي شهره الثاني متنقلاً بين أربيل والموصل برفقة صحافيين أكراد، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إنه مُنع من دخول موقع المجزرة، شأنه شأن الآخرين لعدة مرات، لكنه حصل على معلومات مؤكدة بأن "المجزرة لم تحدث بسبب ثلاجات مفخخة بل بقصف جوي أميركي"، وفق قوله. وأضاف "من الواضح أنه تم تجميعهم (العائلات) بهذه المنطقة وبكثافة من قبل داعش وقصفهم التحالف"، مستدركاً أن "داعش والتحالف والقوات العراقية يتحملون مسؤولية المجزرة".
وكانت وزارة الدفاع العراقية أعلنت، يوم السبت، أن تنظيم "داعش" يقف خلف المجزرة عبر تفخيخه أجهزة منزلية كالثلاجات والمجمدات والسيارات وتفجيرها لإلصاق التهمة بالقوات العراقية، فيما اعترف الجيش الأميركي بقصفه المنطقة، إلا أنه استدرك بالقول إنها تمت بناءً على طلب عراقي، كما وعد بفتح تحقيق في المجزرة. وبعد انتشار الخبر في الموصل، سارع المواطن خالد التورنجي، وهو أحد سكان المنطقة الذي فقد 15 شخصاً من عائلته، إلى بالحضور إلى مكان منزله فوجده ركاماً، بالإضافة إلى المنازل المجاورة. وقال لـ"العربي الجديد"، متأثراً، إنه لا يريد شيئاً "سوى دفن أهله".
بدورها، أكدت رئيسة مجلس قضاء الموصل، بسمة بسيم، لـ"العربي الجديد"، أن معظم منازل حي الموصل الجديدة قد سويت بالأرض فوق رؤوس ساكنيها. وقالت إن القصف استهدف منازل كانت تأوي سكان منطقة الموصل الجديدة بعدما تجمعوا في عشرات المنازل هرباً من منازلهم التي كانت قريبة من مناطق الاشتباكات. وأضافت أن "عدد الضحايا مرشح للارتفاع وكل ساعة يتم استخراج جثث من تحت الأنقاض ولا تزال عمليات البحث جارية وأغلب منازل المنطقة لم يتم البحث فيها، إذ يتوقع أن يرتفع عدد الضحايا بسبب تأكيدات سكان محليين أن هنالك منازل كانت تحتوي على عائلات هاربة من مناطق أخرى"، وفق روايتها. وذكرت أن فرق الدفاع المدني تعاني من نقص الإمكانات والآليات المناسبة لرفع الأنقاض. كما أن هناك تضييقاً ومراقبة شديدة لعناصر الدفاع المدني تمارسها القوات العراقية، خصوصاً بعد كشف المجزرة، بحسب قولها.
قنابل محرم استخدامها
وقال مسؤول عسكري عراقي في بغداد إن الطيران الأميركي قصف قنابل محرم استخدامها داخل المدن، بسبب قوتها التدميرية. وأضاف أن المعلومات تشير إلى أن مجزرة الموصل وقعت بسبب تلك القنابل، مشيراً في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "عدة قنابل وصواريخ مسحت المنطقة وبدت كأنما قنبلة ذرية ضربتها". وتابع أن "التحقيق يجب أن يكون نزيهاً"، لافتاً إلى أن "آثار تفحم الجثث وانصهار حديد الأبنية والشبابيك والمنازل التي سويت بالأرض، كلها أمور تؤكد بأن ما تم استخدامه بالقصف ليس سلاحاً عادياً"، على حد وصفه.
وذكرت مصادر محلية في الموصل لـ"العربي الجديد"، أن تأخر انتشال الضحايا تسبب بموت عشرات الجرحى الذين كان يمكن إنقاذهم بعد القصف مباشرة. ووفقاً للمصادر ذاتها، فإن القوات العراقية "علمت بالمجزرة لكنها حاولت التكتم عليها، كما لم تقم بفعل شيء لانتشال الضحايا من تحت الأنقاض، وهو ما أدى إلى ارتفاع الحصيلة"، بحسب تأكيد المصادر.
بدوره، أعلن المرصد العراقي لحقوق الإنسان عن حصيلة جديدة للضحايا، وقال إن عدد ضحايا معركة الجانب الأيمن للموصل خلال شهر واحد بلغت نحو 4 آلاف قتيل، ولا تزال هناك جثث كثيرة تحت الأنقاض. وأوضح هذا المرصد، غير المرتبط بالحكومة العراقية، أن معظم الضحايا سقطوا جراء الغارات الجوية والاشتباكات. وهي حصيلة حتى الآن تبدو واقعية، خاصة إذا تمت مقارنتها مع حصيلة معركة الساحل الأيسر للموصل، والتي بلغت 13 ألف قتيل وجريح واستمرت نحو ثلاثة أشهر.
أما خالد سليمان خوشناو، من الدفاع المدني، فأكد في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنه انتشل نحو 50 جثة حتى الآن مع رفاقه من تحت منزل واحد. وأضاف "منذ 10 سنوات أعمل بهذا المجال، لكن أكثر شيء آلمني هو حين رفعنا سقف غرفة ووجدنا تحته طفلتان على ما يبدو أنهما توأمان كانتا في زاوية من الغرفة وتحتضن إحداهما الأخرى". وختم بالقول إن تحرير الموصل بالنسبة إليه صار يشبه إلى حد كبير طبيباً يخرج من غرفة العمليات ويقول للناس: لقد نجحت العملية لكن المريض مات.