الجزائر: عصابات تهريب الجنوب تحتمي بأنابيب النفط

06 يونيو 2014
الحدود الجنوبية للجزائر مع مالي وليبيا (فاروق بيطاشي/الفرنسية/Getty)
+ الخط -


بعيداً، هناك، في صحراء ورقلة الغنية بالنفط والغاز في جنوب الجزائر، مضت سيارة البيك آب القوية ذات الدفع الرباعي بسرعة فائقة، سارت على خط مستقيم الى جوار خط الانابيب الذي ينقل نفط الجنوب الفقير الى الشمال الغني. كان قائد السيارة الملثّم يستحثّ سيارته لتزيد سرعتها هرباً من صوت حوامة (هليكوبتر) تابعة للجيش الجزائري بدأت تقترب منه ومن رفاقه الثلاثة مستهدفة شحنتهم من السجائر المهربة.

عمد سائق السيارة، الخبير بدروب الصحراء الجزائرية، الى تهدئة روع رفاقه المستجدين في العمل بالمهنة قائلاً بثقة: "لا تقلقوا لن يستطيعوا قصفنا لأننا نمشي فوق أنبوب النفط، وقريباً سنختفي عن أعينهم في أحد الدروب الجبلية". لحظات ومرت الطائرة مسرعة فوق رؤوسهم. لم تقصفهم بالفعل قبل أن تختفي في مشهد سينمائي ينتصر فيه الشر على الخير، لكن هذه المرة في الواقع وليس في الخيال.

كثيراً ما تكرر المشهد السابق في جنوب الجزائر التي أصبحت بؤرة هامة لتهريب السجائر والمخدرات ومبادلتها بالسلاح، الذي تستخدمة الجماعات المسلحة، ما أدى الى استحداث الجيش الجزائري لهيئة تدعى "غرفة العمليات المركزية" تنتشر عبر إقليميّ الجنوب الغربي على الحدود مع مالي والنيجر، والجنوب الشرقي الذي يضم حدود تونس وليبيا، للقيام بعمليات حساسة وضرب أهداف محتملة.

"العربي الجديد" تنقّل على حدود الجنوب الجزائري مع مالي، لينقل حياة المهربين في المنطقة وأسباب عمل أبنائها بالتهريب. 

البطالة و"الحقرة"

عمار العوني، شاب ثلاثيني يعرفه أبناء ورقلة جيداً، احترف التّهريب بأنواعه في كلّ مناطق الجنوب، منها ورقلة وغرداية، بعدما لمس عائداته المرتفعة، وخصوصاَ مع ازدياد الطّلب النّاجم عن توسّع بؤر التوتّر. وتفيد تقارير أمنية بتورّطه المباشر في عمليّة تهريب أسلحة ومتفجّرات، استخدمتها جماعة مسلحة في تفجير مقرّ قيادة الدّرك الوطني في ورقلة قبل سنتين.

طاردت الأجهزة الأمنية العوني ليقع أخيراً في قبضتها، بعد مطاردة حدثت قرب منطقة "قاسي الطويل"، على بعد 600 كلم عن الحدود الجزائرية ـ المالية، بسبب سعيه لسرقة مركبة دفع رباعي تابعة لشركة أجنبية لينقل عليها أسلحة وذخائر. وبعد تتبّع شرس من أجهزة الامن، انقلبت سيارة المهربين ما أدى الى مقتله مع أحد مرافقيه.

قصة العوني ليست الوحيدة التي يتداولها شباب الجنوب، فشقيق أحد المهرّبين الجزائريين، رفض ذكر اسمه حفاظاً على سمعة الأسرة المنحدرة من دائرة عين صالح التابعة لولاية تمنراست الحدودية، روى لـ"العربي الجديد"، قصة شقيقه قائلاً: "أخي عمل كمهرب في الصّحراء الجزائريّة، وكان حلقة الوصل بين الجماعات المسلحة في كل من مالي وليبيا، ومنفذاً لعمليات تسليم مختلف سلع التهريب من سجائر، مخدرات وأسلحة موجّهة لدعم العناصر المسلحة في المنطقة. لكنه الآن هارب ولا نعلم عنه شيئاً".

مصادر أمنية قالت لـ"العربي الجديد"، إن العلاقة والتعاون بين المهربين والجماعات المسلحة يظهر جلياً من خلال عمل المهربين في أنشطة تهريب السجائر والمخدرات لدعم الجماعات المسلحة التي تقوم باستخدام عائداتها لشراء السلاح.

ووفقاً لما روته مصادر من الجنوب حول آلية عمل المهربين، يتضح أنهم لا يعملون منفردين، حيث يسعون لمضاعفة عائداتهم عبر تجنيد شبّان آخرين، صفاتهم المشتركة الفقر والبطالة والإحساس بـ"الحقرة" بسبب تهميش السلطة المركزية لهم، رغم عيشهم في أغنى منطقة من الوطن، والإحساس بغياب العدالة حيث يعدّ الشبان المجندون كنزاً لهم يستفيدون منه في الوقاية من مطاردات عناصر الأمن، والاستفادة منهم في كونهم أبناء المنطقة وما ينجر عن ذلك من صعوبة إلقاء القبض عليهم بفعل تضامن السكان معهم هناك.

"الوضع المتردي الذي تعيشه عائلات أقصى الجنوب الجزائري أنتج جيلاً حاقداً على السلطة المركزية، كيف لا ونحن نشاهد البذخ في الشمال بأموالنا ومصادرنا الطاقوية التي تتربع عليها رمال الصحراء التي عشنا فيها قروناً"، يقول الحاج عبد القادر الورقلي، أحد كبار قبيلة الشعانبة العربية الكبيرة التي تنتمي الى بني سليم والتي تعيش شمال الصحراء الجزائرية.

حالة الاحتقان التي وصل إليها أبناء الجنوب ليست خافية على أي مسؤول جزائري، ولكن لا أحد يتحرك لانتشال أبناء الجنوب من دوامة البطالة والفقر رغم وجود مئات الشركات العاملة في أحواض النفط الموجودة في الجنوب والتي "عاثت فساداً وتمادت في الرشوة والمحسوبية على حسابنا"، أضاف عدبي لمين، أحد الشبان العاطلين عن العمل أو "البُطّال"، كما يسمونهم بولاية إليزي الواقعة في الجنوب الشرقي للجزائر.  

الأستاذ الجامعي والمستشار العسكري بوزارة الدفاع، نسيم بهلولي، قال في تحليله لانتشار ظاهرة التهريب والشعور بـ"الحقرة" في الجنوب الجزائري: "التباين الفئوي بين الشمال والجنوب والذي يلحظه الشباب، والهشاشة الدينية وغياب الضوابط التقليدية والانفعالات الحماسية، وضعف الحراك التعبوي السياسي، عوامل أدت الى تقويض معادلة الولاء للوطن لدى الشباب في الجنوب، وهو ما أدى الى أن تصبح (المنطقة) مصدر تهديد وطني ساهم فيه نماء شعور الشباب بغياب العدل والمساواة، مع ازدياد لمساحة الفقر واتساع البطالة. وهي مفردات لم يسأل النظام الجزائري نفسه لماذا أو كيف لم يتعامل معها بجدية من قبل؟ ولم تثر اهتمام الحاكم الجزائري على مدى عشرات السنين".

إمارة تهريب كل 100 كلم

سقوط أحد المهربين، لا يعني أنّ الحرب قد وضعت أوزارها، فقوافل من الشّباب البطال والمهمّش، يعدون أهداف مباشرة للجماعات المسلحة والمتطرّفة في منطقة  السّاحل ـ يضيف عارفون بخبايا التهريب ـ وقالوا لـ"العربي الجديد"، إن قادة تلك الجماعات انتقائيّون كفاية، ليختاروا رجالاتهم بعناية فائقة من ذوي المهارة في معرفة مسالك الصحراء ودروبها الوعرة، ذكائهم متّقد لاختيار أماكن المرور، حيث يصعب على قوّات الأمن تنفيذ عمليات العرقلة، مثال ذلك تعمّد هؤلاء المرور بسيارات الدفع الرّباعي فوق أنابيب النّفط مباشرة، ضماناً لعدم لجوء المروحيات إلى قصف مركباتهم، وتغييرهم السيارات باستمرار لجعل مهمة إيجادهم أصعب، كما أنهم يوزعون مناطق العمل كل 100 كلم حتى لا تدهمهم الشرطة.

عدد من أهالي الجنوب من القريبين من المهربين والعاملين معهم وصفوهم بأنهم يتّسمون بالكتمان ولا يختلطون بالناس، يصاهرون القبائل المالية والتارقية ( قبائل موجودة في ولاية اليزي الجنوبية وعدد من مناطق الجزائر) لتوطيد العلاقات وضمان تمرير آمن للأسلحة والدفاع عنهم أو إخفائهم في حالة أي مطاردة محتملة، كما أن جل وقتهم يقضونه في التخطيط لعمليات إدخال جديدة لأسلحة لا يهم لمَن تصل، بل الأهم أن يكون هناك ملايين من ورائها، حيث تتقاطع مصالحهم مع الجماعات الراغبة في زعزعة أمن بلدان الساحل.

أحد الشبان من المشتغلين بتهريب السجائر، قال لـ"العربي الجديد": المهربون يغيّرون الخطط في كل مرة أو بعد كل عملية، آخرها مثلاً كانت قبل أن أترك العمل معهم بفترة وجيزة".

من ناحية أخرى، فإن عائلات الحدود الجزائرية التي تعيش في الجنوب ترفض الإدلاء بأي معلومات لأي جهة كانت عن نشاطات أبنائها العاملين في التهريب. فالوشاية بأي مجموعة حكمه الموت، وتهديد مصالح المهربين يساوي انتهاء حياة المتعاونين مع الأجهزة الأمنية التي تمارس ضغوطاً على السكان لتبليغها إذا ما تم رصد أي تحركات مشبوهة.

بالمقابل، فإن عمليات التهريب لم تنعكس على مظاهر حياة المهربين، فهم لا يمتلكون قصوراً معروفة ولا يعيشون حياة باذخة، كما قال أحد أبناء منطقة الجنوب لـ"العربي الجديد"، مؤكداً أن حالة المهربين ومظاهرهم لا تدل على ثرائهم الفاحش بفعل تنقلهم وتغييرهم لمقرات سكنهم كل مرة خوفاً من الملاحقات والاستهداف، إلا أن اعترافات بعض المقربين منهم للأجهزة الأمنية، كشفت، مثلاً، أن صهراً للمهرب مين بن شنب، شارك في عملية تيقنتورين بـ"إن أمناس"، ودخل الى رصيده المالي أكثر من "03 ملايير" سنتيم (حوالى 40 ألف دولار).

وحدات سرية أمنية

لمنع تدفق الأسلحة التي صارت في المتناول بفعل الاحداث في ليبيا ومالي ونشوء عصابات منظمة لتوزيعها وتهريبها، نقلت مصادر أمنية رفيعة المستوى، لـ"العربي الجديد"، معلومات دقيقة حول الإجراءات المستحدثة فى الجنوب الجزائري، حيث أسندت وزارة الدّفاع الوطنيّ ملف مراجعة أمن الحدود الآني (معلومات جديدة كل دقيقة) إلى القطاع الجهوي في الناحية العسكرية للأمن لعسكري، ببلدية "الدبداب" الحدودية مع "غدامس" الليبية، تحت إشراف شخصي من قائد الناحية العسكرية الرابعة، اللواء شريف عبد الرزاق، بالتنسيق مع الجنرال حسان علايمية، المدير الجهوي لمصلحة التّخطيط والوسائل الحربية، فيما يعمل الضباط على إعداد تقارير كل ساعة، وربطها بالخط الفوري لوزارة الدفاع، لتحديث المعلومات ورصد الخطط والإمكانات وتلقي التعليمات لمعالجتها وتنفيذها بأقصى سرعة.

التنسيق، حسب المصادر، يتمّ على أعلى مستوى، ففي اجتماع قبل شهر عقده رئيس الجمهورية وزير الدفاع القائد الأعلى للقوات المسلحة، عبد العزيز بوتفليقة، مع نائب وزير الدفاع، الفريق قايد صالح، وقائد القوات البرية، اللواء احسن طافر، خرجت توصيات تملي ضرورة استحداث هيئة تدعى "غرفة العمليات المركزية"، تضم 64 ضابطاً من وحدات الاستطلاع السرية التي تلقت تدريبات عالية المستوى في روسيا بين عامي 2006 و2007، يشرف هؤلاء على تسيير 84 وحدة تدخل سرية، تنتشر عبر إقليميّ الجنوب الغربي على الحدود مع مالي والنيجر، والجنوب الشرقي الذي يضم حدود تونس وليبيا، للقيام بعمليات حساسة وضرب أهداف مركزة للجماعات المتطرفة والمسلحة.

"العربي الجديد" رافقت إحدى تلك العمليات منذ بدئها، وفي الواجهة يرفع المسؤول الأمني السماعة ليطمئن إلى مسار الدفعة الجديدة من الجنود، المارة حينها بمنطقة "حاسي مسعود" البترولية، إلى غاية وصولها مدينة "الدبداب" الحدودية، وتضم 5000 فرد من قوات الكوماندوس الخاصة المدربة على التحرك في المناطق الصحراوية يرابطون في 32 نقطة عسكرية مدروسة تم تحديد معالمها بالشريط الحدودي، تشرف عليها 84 كتيبة أمنية أخرى، ويضاف إليهم 320 مظلياً من قوات الصاعقة، فضلاً عن تعيين 29 من مقتفي الآثار بالصحراء والخبراء بكل خبايا المسالك الوعرة في الكثبان الرملية المحتواة بالعرق الشرقي الكبير والأماكن التي ينتهجها مهربو السلاح، مع الزج بـ12 وحدة من المفرزة الخاصة التابعة لقوات الدرك الوطني والتي تم استحداثها أخيراً لهذا الغرض من مناطق: بشار، الأغواط، بوفاريك، الشراقة... على طول شريط يمتد لمسافة 1000 كلم يشرف على تسييرها قائد القيادة الجهوية الرابعة للدرك الوطني، الجنرال عبد الحفيظ عبداوي.

الحصيلة كانت وقوع المهرّب الدولي، آغ أبلال محمد البشير، مزدوج الجنسية (جزائرية ـ مالية) بعد كمين محكم نفذته قوة خاصة إثر ترصّد لتحركاته. وتربط آغ أبلال علاقة مصاهرة مع زعيم حركة التوحيد والجهاد بغرب أفريقيا الأزوادي، أحمد ولد، المكنى بأحمد التامسي، خليفة أمير مجلس الشوري المقضي عليه قبل مدة عدنان أبو الوليد.

مسؤول أمني بقيادة الدّرك الوطني، قال لـ"العربي الجديد"، إن التركيز ينصبّ على ملاحقة المهربين للأسلحة، وأفراد الجماعات الإرهابية، في محاولة لاعتقالهم أحياء، لاستخلاص معلومات تكون مهمة في معظم الأحيان، وتؤدي إلى كشف عمليات أخرى يجري التحضير لها: توقيتها، والنقاط المزمع التسلّل منها لتمرير شحنات الأسلحة والمخدرات، وبالتالي إفشال كل مخططات تهريب السّلاح من الحدود الليبية والمالية إلى داخل العمق الجزائري.