دفعت الأوضاع الأمنية والسياسية في العراق آلاف العراقيين إلى البحث عن بدائل للحياة الآمنة. كثيرون اختاروا التوجه إلى تركيا، إما للاستقرار أو اعتبارها معبراً للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، التي تصل بهم إلى المجهول، لكنه أفضل من الحياة في وطنهم والموت قصفاً أو على أيدي الميليشيات، كما يقولون.
غير أنهم واجهوا، في ترحالهم التركي، صنوفاً من المعاناة، أهمها تقييد الحركة وغلاء المعيشة، ما دفع العديد من اللاجئين إلى العمل في ما يسمى بـ"الشغل الأسود" بأجور زهيدة لا تكفيهم وأسرهم التي تعاني الجوع والمرض.
"العربي الجديد" التقت العراقيين في تركيا وتكشف جانبا من حياتهم، التي بالتأكيد لا تشبه المسلسلات التركية كما توقع بعضهم حياته قبل الهجرة.
في انتظار اللجوء
ويقول رائد محمد، الناشط في اتحاد اللاجئين العراقيين في تركيا، لـ"العربي الجديد"، إن الوضع الحالي أكثر سوءاً من الهجرتين السابقتين في عام 2003 عقب الغزو الأميركي، وفي عام 2006 بعد اندلاع الحرب الطائفية، إذ يسجل يومياً نحو 200 عراقي أسماءهم بمكتب الأمم المتحدة في أنقرة بحثاً عن اللجوء الإنساني في الدول التي تستقبل اللاجئين العراقيين، وهو ما يضاعف فترات الانتظار لفحص آلاف الطلبات التي تكدست بالمكتب ويزيد من معاناة الانتظار الصعب للاجئين الذين يتكدسون يوماً وراء يوم.
ويكشف رائد أن ملفات العراقيين الباحثين عن وطن لجوء في مكتب الأمم المتحدة بأنقرة أصبحت تستغرق فترة تصل إلى 5 سنوات للبحث وإصدار القرار بها.
ويقدّر ناشطون عراقيون عدد المنتظرين للحصول على موافقة على طلب اللجوء عبر مكتب الأمم المتحدة في تركيا بـ34 ألف عراقي وعراقية.
عبد الرحمن سعدون، الذي قدم طلب لجوء، روى لـ"العربي الجديد"، ما مر به قائلاً: "بعد إجراءات التقديم والتحقيق الاولي، يمنح مسؤول الأمم المتحدة العراقي المتقدم ورقة ثبوتيه بأنه تحت حماية الأمم المتحدة تسمّى "أمنيات".
تمنح ورقة "الامنيات" العوائل العراقية جزءاً من الحرية، وفي الوقت ذاته تعيقهم، لأنها تسهّل على المواطن العراقي الإقامة في إحدى محافظات تركيا التي تقررها المنظمة، وهي 8 محافظات يمكن للعراقيين اللجوء إليها من أصل 81 محافظة تركية ، أبرزها مناطق غازي عنتاب، جوروم، واماسيا، وسامسون، وافيون، وكربوك، فيما يمنع اللاجئون العراقيون من الإقامة في مدن كإسطنبول وأنقرة.
ويعد بكر أحمد، أحد العراقيين المحظوظين ممّن استطاعوا الحصول على ورقة الامنيات من مكتب الأمم المتحدة للاجئين. يعيش أحمد في مدينة سامسون، ويقول لـ"العربي الجديد": "لم أر إسطنبول نهائياً، لأنني لا أستطيع الخروج من مدينتي الا بإذن من مركز الشرطة التابع للمدينة، وأنا ملزم بالذهاب أسبوعياً إلى (الأمنيات) لإثبات وجودي والتوقيع بسجل مخصص للاجئين في تلك المدينة، وفي حال مخالفتي هذه التعليمات، قد أدفع غرامة تصل إلى 1500 دولار.
أما الشاب محمود قاسم، الذي فرّ من العراق حديثاً بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، (داعش)، على مدينته في محافظة ديالى، فيعاني من مشكلة اللغة التركية قائلاً: "الأتراك لا يتحدثون أي لغة غير التركية، وعندما نذهب إلى أي مكان لا نجد ما يفيدنا، وأوراقي التي أنوي التقدم بها إلى مكتب الامم المتحدة لطلب اللجوء ناقصة وأشعر بالضياع لأنني لا أجد مَن يساعدني".
خالد سجاد، لاجئ عراقي في تركيا ينتظر منذ 4 أعوام البت في مصيره، قال لـ"العربي الجديد": "أجريت مقابلة مع المسؤولين في مكتب اللجوء، وقام المسؤولون بالتحقيق الاولي للتعرّف إلى حالتي، فأخبرتهم أني تعرضت للخطف، وعقب 5 أشهر جرى تخييري للإقامة في عدد من المحافظات التركية مؤقتاً، وما زلت أنتظر الرد على طلبي باللجوء حتى اليوم".
ويفسر الناشط القانوني العراقي، محمد جمال، طول فترة الرد بغياب هدف اللجوء لدى بعض العراقيين المتقدمين أو امتلاك المتقدم لملف سابق في تركيا أو دولة أخرى تركه مفتوحاً دون مراجعات، وعدم ذكر الأسباب الصريحة في طلب اللجوء والتلكؤ أثناء التحقيق مع الأمم المتحدة، وأسباب أخرى تتعلق بقضايا فردية.
لكل حالة قصة
أم أحمد (عراقية من الموصل)، لم تحصل حتى اليوم على موعد للمقابلة بسبب تضارب شهادتها مع شهادة زوجها في التحقيق. تقول، لـ"العربي الجديد" من أمام مكتب الأمم المتحدة: "قلت للمسؤول الذي كان يحقق معي معلومة مختلفة عمّا ذكره زوجي، فمضى علينا الآن 8 أشهر دون موعد للمقابلة. ونحن الآن نعيش الانتظار المر لما ستؤول اليه الأمور في ظل غلاء المعيشة ونفاد مدخراتنا".
ويتدخل أبو جاسم في الحوار قائلاً: "لديّ ملف في منظمة الأمم المتحدة بسوريا منذ عام 2007، وأبلغوني بعدم مطابقته لشروط اللجوء دون ذكر السبب، رغم أني كنت عسكرياً في زمن صدام حسين، برتبة نائب ضابط، وكنت بعثياً بمرتبة عضو فرقة حزبية، وبعد تأزم الوضع بسوريا اضطررت للعودة إلى العراق عام 2013. والآن، وبعد هذه التطورات على الساحة العراقية، أصبحت مستهدفاً، فاضطررت للهجرة مجدداً الى تركيا لفتح ملف آخر لدى المنظمة".
ينادي أبو جاسم، أثناء سرد قصته، على ناشط عراقي جاء مصادفة الى مكتب الأمم المتحدة في العاصمة التركية أنقرة قائلاً له: "أرجوك انصحني، أنا سني، وبعثي، وعسكري سابق، وعائد من سوريا، ألا تُعدّ هذه الأسباب كافية لجعلي مستهدفاً في العراق، خاصة أن ولدي قتل عام 2005 على يد المسلحين والآن لا أعرف ماذا أفعل أنا وزوجتي؟".
الحالات السابقة دفعت ناشطين عراقيين لإعداد دليل إلكتروني نشروه على موقع التواصل الاجتماعي، (فيسبوك)، للتقديم للأمم المتحدة، أكدوا فيه على ضرورة أن تكون عملية التقديم مدروسة ومهيأة قبل التقديم والتحضير المسبق للسبب أو القضية التي تستحق اللجوء بدلاً من "تحديد القضية في الطابور الذي ينتظر أمام مكاتب الأمم المتحدة"، كما يقول الناشط قاسم محمود، الذي أكد أن الطلب كلما كان مليئاً بأسباب قانونية وإنسانية كلما كانت فرص اللجوء أكبر.
ويتفق عبد الرحمن جبار مع ما قاله قاسم، ويقول: "العراقيون فقدوا كل الخيارات الأخرى للجوء، كالسفر إلى الأردن ومصر وسوريا، بسبب تدهور الأمن في المنطقة العربية، وصعوبة استصدار تأشيرة دخول لتلك البلاد، ولم يبق أمامهم حالياً سوى النجاة بحياتهم من الحرب الدائرة في العراق، وهو ما يعدّ سبباً قوياً لقبول طلبات اللجوء".
مسؤول في مكتب الأمم المتحدة، رفض ذكر اسمه، قال لـ"العربي الجديد": إن معظم الأسباب التي يقدمها العراقيون الراغبون في اللجوء عبر مكتب المنظمة في أنقرة تنحصر في الخوف من أعمال العنف، القصف العشوائي، التصعيد الطائفي والمذهبي، الحرب الأهلية، التهديد والاختطاف على الهوية والاسم والانتماء المذهبي، والخشية من المجهول في العراق بعد تولي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، "داعش"، السيطرة على زمام الأمور في العديد من مناطق العراق.
وأكد المسؤول أن كثرة عدد طلبات اللجوء التي تفوق 200 طلب في اليوم في بعض الاحيان، خاصة بعد تزايد وتيرة العنف في العراق، هو السبب الحقيقي في تأخر الرد على الراغبين في الحصول على فرصة لجوء.
الشغل الأسود
الأوضاع الصعبة التي يعيشها العراقيون في تركيا، دفعت الشاب أسامة، الذي ينتظر قبول طلبه للجوء، إلى العمل في أحد المحلات التركية في مدينة "بولو" لمدة 12 ساعة مقابل 700 ليرة تركية (350 دولاراً)، وهو ما لا يكفي لنفقاته، التي تصل إلى ضعفي المبلغ الذي يحصل عليه من عمله.
ويوضح أسامة أن العمل مسموح فقط لمَن يملك تصريحاً رسمياً، وهم قلة استطاعوا الحصول عليه بطرقهم الخاصة، لأن الداخلية التركية تمنع اللاجئين العراقيين في تركيا من العمل، ومَن يخالف يدفع غرامة تبدأ من 350 دولاراً، وقد ينتهي به الحال إلى الترحيل خارج الحدود التركية.
إلى أوروبا
لم يستطع الشاب العراقي عمر، الهارب من الميليشيات الطائفية، أن يجد عملاً مثل أسامة. كما أن ما شاهده من صعوبة في التقدم للحصول على لجوء عن طريق مكتب الأمم المتحدة للاجئين، دفعه لطلب المال من أهله في العراق لدفعه إلى مهرب يحمله إلى السويد.
عبر عمر اتصلنا بسمساره لنسأله عن طريقة التهريب، فأجاب: سنقوم بإخفائك وسط علب البضائع داخل سفينة متجهة إلى سواحل إحدى الدول الاوروبية، ومن هناك سندبّر هوية عبر شركة تتعامل معنا للحصول على فيزا، وهو ما يكلّف 10 آلاف دولار.
أما الطريقة الثانية الأقل كلفة، والتي اختارها عمر، فتتم عبر الاتجاه ناحية حدود تركيا مع بلغاريا واليونان، والمشي عبر الغابات لعدة أيام للوصول إلى نقطة، من بعدها يجري دفع رشاوى لحرس الحدود البلغاري واليوناني للدخول إلى أي من البلدين، ليشق اللاجئ حياته بعد ذلك في طريقه إلى بلد اللجوء الأوروبي الذي يحلم به.
لكن الناشط العراقي في تركيا، عبد الرحمن العبيدي، يحذّر من تعرّض الكثير من اللاجئين للنصب والاحتيال خلال رحلتهم غير الشرعية بسبب قلّة خبرة المهربين وعمل الكثير من العراقيين على سلب أموال نظرائهم ممّن يحلمون بوطن.