دقق الخمسيني الغزي، خليل عبد الهادي النظر، في صدور ورقاب الدجاج الحي قبل شرائه من سوق جنوبي القطاع المحاصر، مستبعدا تلك التي يظهر في جلدها نقطة زرقاء وعلامة على الحقن، بواسطة مضادات حيوية، بعدما فوجئ بأن أحد أبنائه ممن أصيبوا في مسيرات العودة، واجه صعوبات كبيرة في شفاء والتئام الجروح، بسبب عدم استجابة جسمه للعلاج لوجود أنواع من البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية تشكلت مع الزمن بفعل متبقيات من المضادات الحيوية، وهو ما لاحظه الطبيب عدنان البرش استشاري جراحة العظام في مستشفى الشفاء الحكومي، مؤكداً عدم استجابة أجساد 63 مصاباً للمضادات الحيوية، إذ عانوا لأشهر من تأخر التئام الجروح، وتكرار حدوث الالتهابات وتقيحات، ما تطلب إخضاعهم لمتابعة طبية فائقة، واستخدام أنواع متطورة من المضادات، خشية حدوث مضاعفات مكان الإصابة أو العمليات الجراحية، وهو ما دفع الطاقم الطبي في مستشفى الشفاء، لإجراء متابعات وفحوصات، اكتشفوا من خلالها احتواء أجساد المصابين على متبقيات المضادات الحيوية.
ظاهرة تتفشى
يحذر مدير الطب الوقائي بوزارة الصحة في غزة الدكتور مجدي ضهير، وعلاء حلس مدير عام الصيدلة في إدارة المستشفيات بوزارة الصحة، من الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية في حقن الدواجن، وبيعها قبل انتهاء فترة الأمان المحددة لزوال الخطورة، إذ يؤدي الأمر إلى ظهور فطريات تنمو على البكتيريا، وتتسبب لاحقا بظهور بكتيريا مقاومة للمضادات، وهو ما أدى لإعطاء الحالات التي عانت من المشكلة، مضادات من الجيل الثالث الأكثر فعالية cefotaxime، لكن كانت دون فائدة.
وتتراوح فترة الأمان للمضادات ما بين 7 أيام إلى ستة شهور، وفق ما أكده مدير دائرة الدواجن في وزارة الزراعة بقطاع غزة الدكتور أحمد الفقعاوي، والذي حذر بشدة من خطورة حقن الدواجن بالمضاد الحيوي من نوع "جنتاماسين"، والذي يلجأ بعض المزارعين إلى حقن دواجنهم به بشكل متكرر بهدف وقف مؤقت لنفوق الدواجن ما يمكنهم من بيعها، لكن أجسامها تكون مشبعة بالمضاد.
وتتزايد البكتيريا المقاومة للمضادات وتسجل معدلات انتشار واسعة في العالم، بسبب الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية للإنسان والحيوان، وفق رد منظمة الصحة العالمية على أسئلة "العربي الجديد" عن الظاهرة، لافتة إلى أن 80% من الأمراض التي تصيب الإنسان مصدرها حيواني، فيما أكدت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "الفاو"، في ردها على أسئلة "العربي الجديد"، أن 700.000 حالة وفاة في العالم سنويا بسبب مقاومة الميكروبات للأدوية، بسبب 27 فئة مختلفة من المضادات الحيوية المستخدمة في الحيوانات.
استخدام مفرط
يعود الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية في قطاع الدواجن إلى عدم أخذ عينات من الطيور وإخضاعها لفحوص مخبرية لتحديد المرض الذي تعاني منه، بسبب ضعف الإمكانات وزيادة كلفة الفحوصات، وهو ما يجعل المربين يجربون مضادا تلو الآخر إلى أن يتحقق الشفاء، وفق ما أوضحه البيطري أحمد ثابت الحاصل على الدكتوراه في علم المضادات الحيوية للدواجن من ألمانيا، والذي أضاف أن ارتفاع معدلات الإصابة بمرض الإشريكية القولونية Escherichia coli والتي تصل إلى 88% في مزارع قطاع غزة وفق دراسة يعدها حالياً، يعد سببا هاما في انتشار استخدام المضادات الحيوية، خاصة مع سوء إنشاء المزارع، حيث تربى الدواجن فيما يشبه دفيئات زراعية كبيرة، ما جعل المزارعين يلجأون لكافة أنواع المضادات لمقاومة المرض العنيد، والذي يؤدي إلى ارتفاع معدلات النفوق في الدواجن، كما أن معظم المربين لا يلتزمون بفترة الأمان المدونة على عبوة المضاد، والتي تضمن تخلص جسم الطائر من المتبقيات.
وحذر ثابت وبشدة من لجوء الكثير من المربين لحقن دواجنهم بالمضادات من الجيل الثالث سيفوتاكسيم Cefotaxime ودواء بوليميكسين ب Polymexin b وكوليستين Colistin، وهي مضادات حيوية بشرية تصرف للإنسان كحل أخير للالتهابات البكتيرية المستعصية.
الزراعة ترصد تجاوزات
تتحمل وزارة الزراعة مسؤولية تنظيم قطاع تربية الدواجن، إذ تمتلك فرقا للتفتيش على المزارع، للتأكد من سلامة عمليات التربية فيها، وتعترف الوزارة بأنها رصدت إفراطا في استخدام المضادات الحيوية خاصة عن طريق الحقن في صدور أو رقاب الدجاج، وفق ما أكده حسن عزام مدير عام دائرة البيطرة وصحة الحيوان بالوزارة، قائلا: "بعض البيطريين والمزارعين يخلطون أكثر من نوع مضاد حيوي في عبوة واحدة ويحقنون الدواجن، بهدف الحصول على نتائج سريعة".
وبدأت الوزرة في منع استخدام المضاد الحيوي كولستين في العلاج البيطري، وفق قرار مشترك من وزارتي الصحة والزراعة، وجرى تنفيذ جولات تفتيشية على المراكز البيطرية وبعض المزارع، أسفرت عن إتلاف 664 عبوة خلال شهر يوليو/ تموز و320 عبوة خلال شهر أغسطس/آب من عام 2019، بحسب ما أكده وكيل وزارة الزراعة إبراهيم القدرة، والذي لفت إلى أن حظر كولستين جاء بعد شكوى مقدمة من وزارة الصحة بعد اكتشاف متبقيات في أجساد المصابين والمرضى.
وأضاف القدرة أن: "فرق الوزارة رفقة الطواقم التابعة للطب الوقائي أتلفت 1500 كيلوغرام من لحوم الديك الرومي و3500 دجاجة خلال شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز، إذ كشف الفحص الظاهري وجود أثر الحقن، وتم إتلاف 2700 من الدواجن "دجاج وديك رومي" بعد إجراء فحوصات مخبرية روتينية كشفت وجود مضادات في أجسادها"، مشيرا إلى أن الوزارة بصدد تنفيذ مزيد من الإجراءات أهمها ترخيص المزارع العاملة، وفرض رقابة على المنتج المعروض في الأسواق.
انتشار الظاهرة في أسواق غزة
نظمت وزارة الصحة حملات تثقيفية تزامنا مع الأسبوع العالمي للتوعية بالمضادات الحيوية في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، للحد من صرفها واستخدامها، بسبب ظهور أنواع من البكتيريا المقاومة في حين قال مدير عام الإدارة العامة للصيدلة في وزارة الصحة دكتور منير البرش.
ويمكن رصد هذا الانتشار ميدانيا، إذ أجرى معد التحقيق جولة شملت أربع أسواق شعبية في قطاع غزة، شاهد خلالها بيع دواجن مريضة، معظمها يظهر على أجسادها آثار حقن واضحة، ومن بينها بضاعة كانت في سوق رفح، إذ كان باعة يقفون أمام أقفاص ممتلئة بدواجن لا يتجاوز وزن الواحدة 700 غرام، ويبيعونها بنصف سعر مثيلاتها من الدواجن ذات الوزن الأكبر، ومن بينهم الشاب أحمد إبراهيم، والذي قال إن مالك مزرعة أعطاه الدواجن التي يبلغ عمرها 26 يوما، لبيعها بأي ثمن على حسب قوله، بعد تزايد معدلات النفوق رغم أنه حقنها بمضادات حيوية مرتين، وجرعها مضادات أربع مرات كان آخرها قبل 48 ساعة من بدء البيع.
وبعد معاينة معد التحقيق للدواجن التي بدت بحالة إعياء شديد، وعدد كبير منها نفق داخل السوق، ظهر آثار حقن في صدورها، كما شوهد سائل لزج ينساب من مناقيرها.
انتشار سريع
يشجع انخفاض أسعار المضادات الحيوية على الإفراط في استخدامها، إذ أن كلفة حقن 1000 دجاجة لا تزيد على 60 شيكلا (17 دولارا)، وأحيانا يتم دمج أكثر من 6 مضادات داخل حقنة واحدة، بحسب إفادة الفقعاوي.
ويؤدي حقن الدواجن في الصدر أو الرقبة إلى توغل المضادات الحيوية بسرعة في كل أنحاء جسد الطائر على خلاف العلاج بالتقطير أو التجريع، وفق ما أكده الاستشاري بدائرة البيطرة وصحة الحيوان في وزارة الزراعة نبيل جودة، وهو ما يتطابق مع ما جاء في دراسة علمية أعدها الطبيب البيطري محمد البيومي، ضمن متطلبات الحصول على درجة الماجستير في الأحياء الدقيقة من الجامعة الإسلامية بغزة، بعنوان "الكشف عن متبقيات المضادات الحيوية في لحوم الدواجن في قطاع غزة" والمنشورة عام 2015، والتي أظهرت وجود متبقيات المضادات الحيوية في لحوم الدواجن.
وكشف البيومي لـ"العربي الجديد"، أن الدراسة التي استهدفت أربع مجموعات من المضادات الحيوية من أصل 9 وهي مجموعة التتراسيكلينات Tetracyclines، الأمينوجليكوسيدات Aminoglycosides، الماكروليدات Macrolides ومجموعة البنسلينات β-lactams، أظهرت النتائج المخبرية لفحوصات أجريت على 360 عينة، أن 88 عينة تحوي متبقيات بمعدل 24% بالنسبة للمجموعات الأربع التي تمت عليها الدراسة، مع وضع احتمالية وجود متبقيات أخرى لم تستهدفها الدراسة، كما أظهرت النتائج حسب أوزان للدواجن والتي قُسمت إلى ثلاثة أقسام، أوزان من 1 كيلو إلى كيلو ونصف بلغت نسبة المتبقيات بها 53%، ووزن من كيلو نصف إلى 2 كيلو وبلغت النسبة بها 33%، والوزن ما فوق 2 كيلو وبلغت نسبة المتبقيات 15%، وهو ما يعد مؤشرا هاما للمستهلكين من أجل اختيار المنتج الآمن لهم كما يقول الغزي إبراهيم سالم، والذي دفعته معاناة أحد أبنائه بعد إجراء عملية جراحية، وصعوبة شفاء جروحه بسبب وجود بكتيريا مقاومة للمضادات في جسمه، إلى تغيير أنماط أسرته الغذائية، فباتوا يعتمدون على تناول الدواجن التي يربونها في المنزل، ولا يعطونها أي نوع من الأدوية، وفي حال اشتري الدواجن الحية من السوق، فإنه يربيها في المنزل مدة لا تقل على 21 يوما، ليضمن تخلص أجسادها من أية مضادات أو أدوية أخرى.