قضاء أفغانستان [1/2].. المال يشتري المناصب والأحكام

30 نوفمبر 2015
الأفغان يعانون من فساد القضاء الرسمي (الأناضول)
+ الخط -
قلندر خان، أحد سكان إقليم ننجرهار شرقي أفغانستان، اعتقل بينما كان ينقل في سياراته كمية كبيرة من الأفيون والهيرويين، إلى مدينة جلال أباد، حيث تعبر الشحنة إلى باكستان. لم يمض خان، في السجن أكثر من خمسة أشهر، بعد أن دفع رشوة إلى قاض كانت قضيته تنظر أمامه، إذ أكد محاميه له أن بإمكانه الحصول على براءة، في القضية التي تصل عقوبتها إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، عبر دفع قرابة ألفي دولار أميركي للقاضي، والذي قضى ببطلان إجراءات القبض على خان، وحكم ببراءته.

اقرأ أيضا: آيات الرحمن في جهاد الهان

تراجع القضاء الرسمي

حالة خان ليست فريدة من نوعها في أفغانستان، كما توضح دراسة النقيب ديفيد نوتا، المستشار القانوني لدى قيادة القوات المشتركة التابعة لحلف شمال الأطلسي في أفغانستان، إذ يقول في دراسته التي حصلت "العربي الجديد" عليها أن "تفشي الفساد داخل النظام القضائي الأفغاني، يمنع التطبيق الدقيق للقانون ويسمح لتجّار المخدّرات الأغنياء والمتمرّدين الأقوياء بالإفلات من العدالة".

وتضيف الدراسة التي جاءت بعنوان "عملية الإصلاح القضائي في أفغانستان: في مصلحة الجميع" أن "مع أنّ الأفغان يُشيدون بمفهوم "العدل" الذي يقوم عليه النظام القضائي الرسمي، إلا أنهم يفضّلون النظام القضائي غير الرسمي لأنهم يعتبرون أن القضاء الرسمي يعاني من الفساد التام".

وعلى الرغم من اتخاذ الحكومة الأفغانية، خطوات رئيسية للحد من دفع الأموال مقابل الحصول على الوظيفة في المؤسسات الحكومية، "إلا أن ظاهرة دفع الرشى، لا تزال متواجدة في المؤسسة القضائية، ويعد ذلك أساس الفساد بأنواعه المختلفة"، كما يرى الخبير القانوني الأفغاني، الدكتور خالد حاتم في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد".

يتطابق رأي الدكتور حاتم، مع ما كشفت عنه مؤسسة الشفافية الدولية من أن نحو ألفي موظف في المؤسسة العدلية الأفغانية، من أصل 4500 موظف تحققت المؤسسة من شهاداتهم الدراسية المقدمة لنيل الوظائف القضائية، اتضح أن لديهم شهادات غير موثوقة، تخرج معظمهم من المدارس الدينية، وحصلوا على شهادات الثانوية من المدارس الحكومية مقابل مال.

في هذا الشأن، يعلّق مسؤول في المؤسسة العدلية الأفغانية في تصريحات خاصة إلى "العربي الجديد"، قائلاً "ابن خالتي تم توظيفه هذه الأيام في المؤسسة نفسها بعد أن دفع ثلاثة آلاف دولار أميركي لمسؤول مهّد له الطريق"، ويضيف المسؤول الذي رفض الكشف عن هويته، في تصريحات خاصة إلى "العربي الجديد": "الأمر فاق الحد، وبلغ درجة أن لا وظيفة قضائية من دون مال أو واسطة".

توضح قصة الشاب محمد نويد، ابن مدينة مزار الشريف شمالي أفغانستان، أن للمال دورا كبيرا في تعيين القضاة والموظفين في المؤسسة القضائية. يقول نويد لـ"العربي الجديد" إنه شارك في إحدى دورات تدريب القضاة. وبعد انتهاء الدورة طلب منه أحد المسؤولين مئتي ألف أفغانية (قرابة ثلاثة آلاف دولار) مقابل وظيفة قضائية، لكنه لم يستطع جمع المبلغ المطلوب". ويتفق القاضي السابق سيد ولي مع الرأي السابق، قائلا "مناصب القضاة توزع بين المسؤولين ونواب البرلمان والوزراء، وغيرهم عليه دفع المال".

يرفض معظم الأفغان الحديث حول الفساد في القضاء، ولكن الخمسيني زرمت خان، الذي يزور محكمة إقليم هلمند كل أسبوع يؤكد بكل جرأة لـ "العربي الجديد" أن أحد المسؤولين في الحكومة المحلية (تحفظنا على نشر اسمه) اتهم ابنه ولي خان بالانتماء إلى حركة "طالبان"، بعد أن تشاجر مع ابنه، ومن ثم اعتقلته السلطات. ورغم عدم وجود دليل يثبت جريمة الشاب، لكنه محتجز. زرمت، لم يدفع للقاضي أي شيء، لكنه أنفق أكثر من 80 ألف أفغانية (1230 دولارا أميركيا) على نقل القضية من قاض إلى آخر، معروف بنزاهته، إذ إن كل القرائن تؤكد براءة ابنه.

اقرأ أيضا: أفغانستان.. أمراء الحرب يبيعون المنح الدراسية

لا عقاب مع دفع المال

دفع محمد سرور أحد سكان إقليم زابل، جنوبي أفغانستان، مبلغ 300 ألف أفغانية (4600 دولار أميركي) حتى يحكم القاضي لصالحه، رغم أنه كان متورطاً في قضية اغتصاب، وكان من المفترض أن يحكم عليه بالسجن لمدة ثماني سنوات.

يقول سرور لـ"العربي الجديد": "في داخل محكمة الاستئناف في زابل كل شيء مقابل دفع المال". بيد أن القاضي السابق في محكمة أفغانية، المولوي زلمي، يقول تعليقا على ما سبق "نعم وإن كان الفساد موجودا، لكن ثمة قضاة يؤدون وظائفهم بكل شفافية ونزاهة.

اقرأ أيضا: الأفيون في أفغانستان.. وقود الحرب في معقل طالبان

المسلحون يستفيدون من الفساد

وثقت "العربي الجديد" عبر شهادات محامين أفغان، قضايا متهمين تم ضبطهم وبحوزتهم متفجرات وأحزمة ناسفة، ولكن أفرج عنهم بعد العبث بملفاتهم في المحاكم، بعد دفع جماعات مسلحة أموالا عن طريق ذوي المعتقلين، لعاملين في المؤسسة العدلية.

من بين هؤلاء سيد خان، (اسم مستعار) لأفغاني اعتقل في مدينة جلال أباد، وبحوزته حزام ناسف، وكان ينوي استهداف دورية للقوات الأفغانية. إلا أنه اعتقل قبل الوصول إلى الهدف. عقب عامين، تمكن والده، من إقناع قاض في المحكمة على تغيير الأقوال والعبث بالدليل، ومن ثم أفرج عنه. يقول سيد لـ"العربي الجديد": "صرفنا حوالي اثني عشر ألف دولار في القضية".

في المدينة نفسها اعتقل محمد وزير ومعه قنابل يدوية. وبعد أسابيع تمكن ذوو وزير عبر وساطة من مسؤول في الشرطة، تم التحفظ على نشر اسمه، إلى تحويل ملفه القضائي، من حيازة القنابل إلى مسدس، ومن ثم أفرج القاضي عنه، بعد طعن محاميه.

أدى تصاعد الفساد في القضاء الأفغاني، وضغوط الأمم المتحدة في هذا المجال، إلى تدخل الدولة عبر الاستخبارات التي اعتقلت العديد من القضاة على خلفية طلب رشى، أحدث هذه الاعتقالات تمت في 24 من شهر أغسطس/آب الجاري، بحق قاض في محكمة استئناف في مدينة خرنه عاصمة إقليم بكتيكا، جنوبي البلاد. ولم يتحدث الجهاز عن هوية المعتقل، مكتفيا بأنه كان يأخذ مائة ألف أفغانية (1530دولارا أميركيا) من متهم في قضية إرهاب.

يحمل الخبير الأمني، زبير أحمدي خان، المؤسسة القضائية مسؤولية خلق العنف في البلاد، إذ إن المسلحين ممن يفرج عنهم مقابل الرشى بعد تعرضهم للتعذيب، يكونون أكثر حدة في مواجهة الحكومة والجيش بعد العودة إلى صفوف الجماعات المقاتلة.

اقرأ أيضا: بالأرقام.. "العربي الجديد" يكشف من نهب بنك كابول الأفغاني

قضايا النساء أكثر تهميشاً

بسبب الفساد المالي المستشري في المؤسسة القضائية، تعد قضايا النساء أكثر تأثراً. إذ قلما تبت المحكمة في قضايا النساء التي لا ترفع عادة في المحاكم الرسمية بسبب الأعراف السائدة. وتعرب فريدة ناصري المسؤولة في مؤسسة حقوق المرأة عن قلقها إزاء تهميش ملفات النساء، ودفع المرأة ثمن الفساد المستشري في المؤسسة القضائية.

تعد قضية الفتاة كشور (20عاما) التي قتلت مؤخراً، على يد أخ زوجها السابق في مدينة غور، شمالي أفغانستان، دليلاً على أن المرأة الأفغانية ضحية الفساد في القضاء، إذ أقدمت الشرطة على اعتقال القاتل وأخيه، ومثلا أمام المحكمة، ولكنهما حصلا على البراءة وأخذا يهددان أسرة الضحية، كما تقول والدة الفتاة زيره جل.

ويتذكر الأفغان جيدا قصة الصحافية ديوه التي تزوجت بشاب من قريتها. وبعد أن تعرضت للعنف الأسري طلبت الخلع، وتمكنت بواسطة الشرطة من مثول الشاب أمام المحكمة. وبعد أن أجّل القاضي القضية، فوجئت أسرة ديوه بالقاضي الذي يتجاوز عمره 65 عاما، في بيتهم لطلب الزواج منها. وبعد رفض الصحافية، أصدر القاضي حكمه لمصلحة الشاب.

اقرأ أيضا: الأفغان في سورية.. جنود "آيات الله" في خدمة الأسد

موقف القضاء من الفساد مثير للاستغراب

ترفض المؤسسة القضائية الأفغانية، اتهامها بأنها في طليعة المؤسسات التي يعم الفساد المالي والإداري كافة دوائرها. على الرغم من اعتراف كل من رئيس المحكمة العليا الحالي سيد يوسف حليم والسابق عبد السلام عظيمي على أن المؤسسة بحاجة إلى إجراء عملية قيصرية تقضي على الفساد المالي والإداري فيها.

ويعرب الخبير القانوني الدكتور أحمد خالد عن دهشته من موقف المحكمة العليا، قائلا "يبدو أن المحكمة نسيت أن من ضمن مهام المؤسسة القضائية، القضاء على الفساد".

مواجهة الحكومة للفساد القضائي بطيئة

أطلقت الحكومة الأفغانية الجديدة، المشكلة بعد تولي الرئيس الأفغاني الجديد أشرف غني مهامه، حملة قوية ضد الفساد، وفتحت العديد من الملفات التي دفنتها الحكومة السابقة، وكان من أول قرارتها تغيير رئيس المحكمة العليا، وبعض رؤساء المحاكم الإقليمية مثل إقليم ننجرهار، في الشرق، وقندهار في الجنوب، وبدخشان في الشمال.

إضافة إلى إحالة بعض القضاة إلى النيابة العامة على خلفية تهم بالفساد. ويرى الخبير القانوني الدكتور حاتم خالد، أن الحكومة تبدو مصممة على العمل ضد الفساد. ولكن لا يمكن استئصال جذور الفساد في القضاء إلا بعد تغيير شامل في النظام القضائي، وإجراء تعديلات جوهرية في لوائحه.

قضاء "طالبان"

وبسبب الفساد في القضاء الرسمي، يلجأ الكثير من الأفغان إلى قضاء حركة "طالبان" الذي حل مكان النظام القضائي الرسمي، كما يكشف الجزء الثاني من هذا التحقيق، ومن هؤلاء نور أحمد، أحد سكان إقليم خوست، الذي ذهب إلى مدينة بيشاور في شمال غربي باكستان، لحل نزاع على الأرض مع ابن عم له في محكمة "طالبان". يقول نور لـ"العربي الجديد" بذلنا جهوداً كثيرة لحل القضية في المحكمة الرسمية، لكن بلا جدوى، كلما دفعنا إلى القضاة، طلبوا أكثر.
دلالات