معمار الاحتلال وإعادة اختراع المكان

29 مارس 2015
مستوطنة حلميش، أراضي قرية النبي صالح (أحمد البظ/العربي الجديد)
+ الخط -

يقال إن الجمال والرُعب يتلازمان جوهرياً في العمارة. من هذا المنطلق، تكون الهندسة المعمارية أداة لفهم الواقع السياسي. وبما أنه لا يوجد تقريباً في العالم مساحة إلا واستُعمرت، فإن المعمار الاستعماري مشترك عالمي لفهم أدوات السيطرة على الناس. أنماط الاستعمار الاستيطاني، في كل مكان، سعت دائماً إلى عزل وحماية المُستَعمِرين وإقصاء الواقعين تحت الاستعمار.

في حالة فلسطين، فإن المستوطنات بُنيت فوق التلال لتشرف من علٍ على القرى الفلسطينيّة، فتحاصرها وتُحْكم السيطرة عليها في الوقت الذي تؤمّن حمايتها لنفسها. "سطوح المباني في المستوطنات حمراء، تطبيقاً لما تمليه قوانين تخطيط المستوطنات، تساهم في توجيه الجيش وتمييز المستوطنات" يقول المعماري إيال فايتسمان.

يُطالَب المستوطنون بإبلاغ الجيش على الفور عن أي تحرّكات مشبوهة، إذ يُعتبرون جزءاً من جهاز الأمن والسيطرة. لتسهيل هذه المهمة، تم بناء المستوطنات على هيئة قلاع مرتفعة لها كامل السيطرة الرأسية مكانياً على الآخر وكشفه ومراقبته.

وبينما بَنت الموجة الأولى المستوطنات على رؤوس التلال معتمدةً على مبدأ "فصل الحيّز"، تدفع الموجة الثانية بالاستيطان إلى مراكز الأحياء والمدن الفلسطينيّة. في بلدة سلوان المقدسية مثلاً، يمكن أن نرى تجمّعات استيطانية من 45 بيتاً مبنيّة في قلب البيوت الفلسطينيّة، كنوع من المستوطنات المصغّرة داخل النسيج المدني، مما يؤجج الاحتكاك إلى أضعاف ما هو عليه.

هذه الحالة الاستيطانيّة يحتجّ عليها المقدسيّون ويثورون ضدّها، لا سيما وأنها باتت تغزو معظم أحياء المدينة وضواحيها. وإن جزءاً أساسياً من عملية الاحتلال قائم على اختراق "الإدراك"، والذي يبدأ بالمكان. وبما أن القدس لا يمكن أن تكون مدينة محايدة ولا حتى متعادلة بالنسبة لإسرائيل؛ باتت الحاجة ملحة لاختراق إدراكها لذاتها، ولإدراك اليهود لها، مكانياً.

إن ثلاثية: الهيمنة / الإقصاء-الإزاحة / الاستيعاب قد توافرت في المكان المُحتل/المُستعمر، وهي ثلاثية قامت عليها الكولونيالية وما بعدها، وهذا ما يدفعنا إلى مقاربة المكان الواقع تحت الاحتلال مقاربة نقدية تستمد دينامياتها من أدبيات الكولونيالية، بالتعاضد مع دراسات علم الإناسة الثقافي فيما يتعلق بالمكان والعمارة وتفكيكها نقدياً.

في سياق الاستعمار الاستيطاني لفلسطين الذي قام باحتلال الأرض/المكان، يملك اليهودي حصراً حق "التجربة المكانية". وهنا نرى مثالاً "قانون أملاك الغائبين"، ودوره في طمس "تجربة" الفلسطينيين المكانية و"تغييبها" لحساب "مادية" التجربة المكانية الصهيونية قانونياً، والقانون إجراء معنوي وضع لإدارة الوجود المادي.

ويَحدث إنتاج "المكان المُجرّب" ضمن عمليات البنى التحتية المادية كالنقل والاتصالات؛ ولعل في مثال القطار في القدس (يربط المدينة بمجموعة من المستوطنات المحيطة بها) دليلاً واضحاً، وفي مثال آخر عمليات تفريغ "المدن الفلسطينية العربية" بجعلها "مختلطة" وصولًا إلى "المدن العبرية".

فمدينة يافا مثلاً طالما مثّلت "مشكلة" سياسية لقوى الاحتلال، وهو ما دفع إلى تبني استراتيجيات متكررة ومركبة من التطويق والرقابة والسيطرة، وهي آليات امتلاك المكان "المُجرَّب"، وصولاَ إلى أن يصبح المجتمع المحلي الفلسطيني 5% فقط من المجموع السكاني لمدينة يافا في تركيبة "متروبولين" تل أبيب.

بالنسبة للبُعد "المُدرك" في المكان، فيتم نحته عبر الخرائط، لرسمه عقلياً في ذهن المتلقي/القاطن فيه، تماماً كما حدث في تجارب استعمارية أخرى إنجليزية وفرنسية وإسبانية، حيث كان دور الخرائط يتمثل في تفريغ إدراك الرجل الأبيض من السكان الأصلانيين، بوصف المكان "أرضاً عذراء" أو "أرضاً بكراً". وفي الحالة الفلسطينية اخترعت مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

ظهرت أنظمة جديدة للترسيم والتمثيل البصري، ولعلّ تشويه الأسماء العربية للمناطق المحتلة (كأن تصبح مثلًا "الناصرة" "نتسيريت"، برغم اعتراف إسرائيل باللغة العربية) يعد أساساً لخطاب احتلالي يبتغي إعادة إنتاج المكان إدراكياً بطمس مفاهيم ونحت أخرى.

ثمة بعد آخر هو البُعد "المُتخيّل" للمكان، ولعل أعلى مراحله هاهنا هي فكرة يهودية الدولة. والخيال اليهودي في هذا الوضع طوباوي، ينبثق من الرمز والأليغوريا. ولكن هذه المفاهيم لا تؤسس بمعزل عن مزدوجات مثل: الجذب/النبذ، الوصول/المنع.

ويوضح عالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر أن "امتلاك المكان المتخيّل يكون عبر الغرق في التاريخ ورموزه، كالمشاهد الشعبية القديمة". وهنا نستطيع فهم محاولات السرقة والاغتصاب الرمزية، لمنتجات النسق الثقافي الفلسطيني، كالأكلات الشعبية والثمار والنباتات.

كما يوضح لوفيفر أن "السيطرة على البعد المتخيّل للمكان وضبطه، تتم من خلال خلق حالة من الخوف والحيازة وعدم الألفة، بجعل الحدود والأطراف أمكنة للقمع والرقابة، في مقابل الرأسمال الرمزي المركزي"، ومن هنا تنطلق دعاية "إسرائيل واحة الديمقراطية والحداثة في المنطقة".

يرى فايتسمان أن أحد عوامل قوّة النظام الاستعماري الإسرائيلي، يكمن في "أنه من غير الممكن رسم الحدّ بين الاقتصاد والمجتمع والسياسة في إسرائيل: كل أفراد المجتمع الإسرائيلي، وكل الشركات والمؤسسات، يستثمرون في التجارة مع الاحتلال". ومن هنا يصل إلى أنه "ليس هناك مشروع استيطاني خلف الخطّ الأخضر فحسب. إن قوّة العلاقات والتشبيك للمشروع الاستيطاني لا تكمن في الضفة الغربيّة فقط، إنما داخل إسرائيل، في الحكومة الإسرائيليّة وفي المجتمع الإسرائيلي، في المؤسسات والاقتصاد".

هكذا نرى مدى التوازي والتماهي بين عملية هندسة وإنتاج المكان معمارياً ومدينياً، وما صاحب ذلك من آليات وإجراءات وسياسات، وعملية إنتاج وإدراك الوجود الذاتي والهوياتي لغوياً، وكمّ العنف الحاصل بين السيرورتين.

دلالات
المساهمون