أفق الفلسطيني ومأزق الإسرائيلي

25 ابريل 2015
"جملة خفيفة"، منى حاطوم (1992)
+ الخط -

قد يشي العنوان بأن صاحبه واقع في نزعة وطنية فلسطينية، أو خاضع لوعي أيديولوجي منحاز يفسد مطلب الموضوعية، فكيف لأحد، في هذه الظروف، أن يتحدث عن أفق للفلسطيني ومأزق إسرائيلي.

أن أكون ذا نزعة وطنية فلسطينية ومنحازاً إلى فلسطين قضية فهذا أمر طبيعي ولا سبيل لنكرانه. غير أن قولي لن يصدر عن هذين الأمرين، بل عن قراءة للحركة الواقعية للتاريخ المشرقي الآن.

فمنذ إعلان قيام إسرائيل والفلسطيني يؤسس وعيه الذاتي على أن فلسطين هي الوطن الأم المحتل من قوة خارجية أخذت اسم دولة إسرائيل، وأسس ممارسته السياسية الثورية والسلمية على وعي كهذا.

وفي المقابل فإن إسرائيل ومنذ قيامها، تؤسس وعيها على حماية أمنها والحفاظ عل وجودها عبر القوة العسكرية والحماية الدولية الأوروبية الأميركية. لم يلغِ انتصارها في حرب حزيران وصمودها في حرب تشرين هذا الوعي بذاتها، بل ظلت تحل مشكلاتها مع الفلسطيني والعربي بواسطة القوة العسكرية والدعم الأميركي - الأوروبي.

يكافح الفلسطيني كي يوجد في صورة يرضى عنها في فلسطين، ويسعى الإسرائيلي إلى الحفاظ على وجوده في فلسطين التى سمّاها إسرائيل.

ولّدت حرب 1948 اعتقاداً لدى السياسي الإسرائيلي بأن الخطر على" إسرائيل" آتٍ من العرب متفرقين أو مجتمعين، كما خلقت لدى الفلسطيني يقيناً بأن العرب هم الأساس بتحرير فلسطين. والحق أن اشتراك الفلسطيني والإسرائيلي في النظر إلى مكانة العرب في الصراع قد حدد علاقة الفلسطيني والإسرائيلي بالمستقبل، وبمفهوم القوة.

حتى عام 1965 لم يكن لدى الفلسطيني شك في قدرة العرب على تحرير فلسطين، حتى وجد الفلسطيني نفسه في وعي جديد بقضيته يقوم على استقلال نسبي للإرادة الوطنية الفلسطينية وترابط مع الإرادة القومية العربية. وبالمقابل لم يكن الإسرائيلي مكترثاً بالفلسطيني، سواء الفلسطيني الذي بقي داخل "الدولة" أو الفلسطيني في المملكة الأردنية الهاشمية أو الخاضع للإدارة المصرية أو العائش في مواطن اللجوء.

ولأول مرة بعد الثورة، وجد اليهودي الذي صار إسرائيليا نفسه أمام اللاجئ الفلسطيني المدعوم عربياً والذي نفى وجوده أصلاً. ثم جعلته حرب حزيران في وضع المواجهة اليومية مع غزة والضفة. وهكذا مع تنوّع حالات الصراع والمواجهة، صار الفلسطيني في كل أماكن وجوده جزءاً من وعي الإسرائيلي بوجوده حتى لو أنكر ذلك على مستوى الخطاب.

وعوضاً عن أن يواجه الواقع بعقلانية الاعتراف به قرر أن ينفيه مأسوراً بالأيديولوجيا والخوف، فوقع في مأزق وجودي صعب، كما سنبيّن، فيما ظل الفلسطيني محتفظاً بالأفق بواقعية سمحت له بالتعامل مع الواقع رغم الأيديولوجيات النافية لإسرائيل. دخلت إسرائيل حال المأزق والذي قد يطول لعدة أسباب:

أولا: اختلاف الشرط التاريخي بين نشأتها ووجودها الراهن، وعدم رؤيتها لهذا الأمر، سواء كان شرطاً فلسطينياً أو شرطاً عربياً أو شرطاً عالمياً. فإذا كان الشرط التاريخي العالمي الاستعماري أدى إلى قيام إسرائيل بوصفه حلاً لما سمي بالمسألة اليهودية، فإن وجودها، وخصوصاً بعد نهاية الحقبة الاستعمارية ونشوء الوعي الفلسطيني والممارسة الكفاحية في الداخل والخارج، قد ولد المسألة الفلسطينية.

وبولادة المسألة الفلسطينية، دخلت إسرائيل مأزقاً عميقاً لأن الدول الاستعمارية نفسها التي أنتجت الدولة الإسرائيلية اعترفت بالمسألة الفلسطينية وضرورة حلها. واللحظة الوحيدة التي اعترفت فيها إسرائيل بالمسألة الفلسطينية هي لحظة أوسلو.

ثانياً: في الوقت الذي احتفظ فيه الفلسطيني بمفهوم القضية الفلسطينية بوصفها قضية شعب تعامل مع قضيته، وبوصفها مسألة شرق أوسطية ثم بوصفها مشكلة فلسطينية. وهو بهذا وسّع إمكانيات مستقبله السياسي. فمفهوم القضية انطوى على إزالة إسرائيل كدولة وعودة فلسطين، والمفهوم المطابق لمفهوم القضية هو التحرير.

ثم بالنظر إلى قضيته بوصفها مسألة، انتقل الفلسطيني إلى إمكانية التسوية الدولية، وباعتباره قضيته مشكلة، صار يبحث عن إمكانية الحل.

لقد وصل الفلسطيني ممثلاً بمنظمة التحرير حداً قال فيه لليهودي: الأرض تتسع لي ولك، فولّد بقوله هذا جملة ممكنات: ممكن العيش المشترك في دولة ثنائية القومية، وممكن الدولة الفلسطينية المتعايشة مع الدولة الإسرائيلية، وإمكانية كونفدرالية؛ فوسّع من أفقه السياسي والعملي، لكن الجواب الإسرائيلي غالباً ما جاء في قول فصل: الأرض لا تتسع إلا لي.

وبالتالي رفض كل الحلول الممكنة، وبرفضه الحلول الممكنة والنظر إليها على أنها تهديد لوجوده، وقع في المأزق التاريخي وهو البحث عن حل مستحيل، والمستحيل لا وجود له أصلا إلا في الذهن. ولهذا فإن الاعتراف بالفلسطيني في أوسلو من قبل الإسرائيلي لم يشهد تطوراً الى حد الاعتراف بأحد الممكنات، بل على العكس، فلقد عاد الإسرائيلي الى حالة نفي الواقعي داخلاً في المأزق الوجودي ألا وهو الخوف من ضياع الوجود.

وهكذا، فنحن أمام وجودين، وجود فلسطيني مسلوب الحق لديه إحساس بوجوده الدائم دون خوف على وجوده ويمتلك الحياة أفقاً بوصفه الساكن الأصلي لفلسطين، وقادر على استعادة وعيه بقضية فلسطين في محيط عربي يسمح بذلك، ووجود إسرائيلي سالب الحق لديه إحساس دائم بالخوف على وجوده متورط في عالم غير عالمه وواقع في مأزق تاريخي.


(باحث وأستاذ فلسفة فلسطيني)

المساهمون