دور إسرائيل الوظيفي... واستراتيجية السيطرة الإمبريالية [1 /2]

02 فبراير 2017
اليهود فرّوا إلى غرب أوروبا لتحسين ظروفهم المعيشية(Getty)
+ الخط -
مقدمة: عودة إلى البديهيات 

ربما كان العنوان "تقليدياً"، و"متقادماً"، و"عفا عليه الزمن"، وربما مستفزاً و"مزاوداً"، أو من خطاب الممانعة. هكذا سيظهر عنوان البحث للكثير من "المعارضين" الذين "تطوروا" مع العولمة فتبنوا خطاب الطغم المالية التي تعممها، ووجدوا في "الأعداء السابقين" أحباء وأصدقاء كان جهلنا وتعصبنا يحوّلهم إلى "وحوش".

سبب هذا الانقلاب هو تأسيس حالة "الصراع الغريزي" مع النظام السوري بعد كل الاضطهاد الذي مارسه، والتدمير الممنهج للسياسة، وتوسيع السجون. بحيث تحوّل إلى "الشرّ المطلق" كما يقال في الفلسفة. وبهذا، ووفق المنطق الصوري، سيكون كل من هو ضد "خير عميم". بهذه الروحية جرى استقبال خطاب العولمة الأشد عدائية تجاه الشعوب، والذي تغطى بخطاب إعلامي عن الحرية والديمقراطية.

وإذا كان حزب البعث مثل كل القوميين واليسار يتخذ موقفاً واضحاً ضد الكيان الصهيوني، ويكرر ما يلخصه عنوان هذا البحث، وحتى أن أحزاباً انشقت أو تأسست استناداً إلى الموقف من القضية الفلسطينية، فقد أدى عنف النظام واستبداده الطويل الى أن يتحوّل هو إلى "التناقض الرئيسي"، وأن تصبح الديمقراطية هي المطلب الذي يتكرر لدى المعارضة. لكن مع نشوء "شعور عام" بـ "جبروت" النظام، ومن ثم العجز عن إسقاطه، أخذت تنقلب الأمور، وبات يتأسس خطاب "جديد" بعد التخلي عن كلية الخطاب السابق. جوهر هذا الخطاب هو النظام، والسؤال كيف يزول؟

هذه الأجواء كانت تسقط البديهيات، وتؤسس لخطاب جديد معاكس تماماً لما كان يُطرح. وإذا كانت بعض أطراف اليسار قد انشقت أو تأسست انطلاقاً من "خيانة" النظام السوري للقضية الفلسطينية، فقد أصبحت تؤسس الأوهام حول موقف النظام، انطلاقاً مما كان يقول حزب البعث قبل عقود من استلامه السلطة، دون لمس التحولات التي جرت بعد استلام حافظ الأسد السلطة، والتي كانت لمستها حينها، لكنها قفزت عنها الآن. لقد بات النظام وحدوياً ومع تحرير فلسطين، ضد أميركا والدولة الصهيونية، واشتراكياً كذلك. وهي الشعارات التي كان يطرحها حزب البعث، وتطرحها هي كذلك.

لا شك في أن النظام السوري ظلّ يكرر هذه الشعارات، حتى وهو يقيم الاتصالات مع الكيان الصهيوني لإنهاء "الصراع" والوصول إلى "السلام"، ويحاول ترتيب العلاقة مع أميركا بعد أن ظهر أنها تنكسر، خصوصاً وهو يعمم اللبرلة التي كانت تفترض الربط الحتمي معها. لكن ليس خطاب النظام هو من يحدِّد سياساته، أو يشير إلى مصالح الطبقة المسيطرة. فللخطاب مهمة التمويه، والتزوير والتشويش، وليس إعلان الحقيقة. وما يوضّح الحقيقة هو الحفر عميقاً في بنية النظام الاقتصادية السياسية. وهو ما لم يكن يحدث، بل كانت الحاجة لشيطنة النظام تفرض الانشقاق العميق عنه، بالتخلي عما كان مشتركاً في البدء.

 وربما تكون الأمور أوضح حين نشير إلى حالة "الصراع الغريزي" التي أوجدها "حقد" النظام على المعارضة، وبشاعة التصرّف تجاهها. وهي الحالة التي استثارت كل ما يملك المنطق الصوري من ممكنات لكي يجري تصديق خطاب النظام دون الحاجة إلى تفكيكه من طرف، والانطلاق السريع نحو "عدوه" من طرف آخر. وهو الأمر الذي فرض تبني خطاب العولمة كاملاً، والانزلاق إلى التبعية لـ "الغرب"، على اعتبار أنه ضد النظام كما كان في زمن سابق، أو كما ظهر نتيجة بعض الاختلافات. فرغم مشاركة النظام السوري في الحرب ضد العراق سنة 1991 تبلور حلم أن تغزو أميركا سورية. فالتخلص من النظام كان يحتاج إلى هذه الخطوة نتيجة الشعور بالعجز الذاتي.

كل ذلك جعل النظر العدائي للدولة الصهيونية خطيئة، والإشارة إلى السيطرة الإمبريالية شططاً، وربما "لا إنسانية". وفي كل الأحوال هو يعبّر عن "سوء فهم" لأميركا و"الغرب" والعولمة، وعدم تلمس التطور "الحضاري" الكبير الذي تعيشه الرأسمالية. لقد حظيت أميركا و"الغرب" عموماً بحبٍّ غامر، وباتت الأم التي تحضننا. وهذا ما يجب أن يجعلنا نقبل كل سياساتها، أن نعتبر سياساتها هي سياساتنا نحن، وأن نقتنع أنها من نتاج "تفكيرنا"، وصدرت من ذاتنا.

لكن، البديهيات تبقى بديهيات، مهما تاه العقل، ومهما فرض "الغيظ" الشطط. وهي بديهيات حتى وإنْ كانت جزءاً من خطاب دمشق، إذ علينا كشف زيف هذا الخطاب وليس زيف هذه البديهية. فقد كرَّر المعارضون كثيراً كيف أنه يحمي حدود الكيان الصهيوني في الجولان، وكيف أسهم في تدمير المقاومة الفلسطينية، بحصارها وتفكيكها. وأيضاً كيف أنه ظل يحاول التفاوض مع إسرائيل من أجل تحقيق "السلام" بعد أن بات يُعلن بكل وضوح أن "السلام الاستراتيجي" هو خياره الوحيد.

وربما كان الزوغان عن كل ذلك هو شكل من تقصّد "اختراع" وهم أنه في تناقض مع أميركا والكيان الصهيوني، أو لـ "استغلال" هذا "التناقض"، الذي كان "من طرف واحد" هو ليس النظام السوري، من أجل الاتكاء على تدخل أميركي يغيّر النظام. بمعنى أن الهدف هو "اختراع صديق"، وبالتالي تمثّل خطابه.

في كل الأحوال سوف أعيد هنا تكرار البديهيات. 


صور "الدولة اليهودية" 

قبل الإشارة إلى فكرة "الدولة اليهودية" سوف أتناول الخطاب الذي جرى تعميمه لتبرير وجود "دولة يهودية". فهو الخطاب الذي حشد دعماً عالمياً، من الدول ومن الشعوب، كما حشد قطاعات من اليهود الذين خضعوا لممارسات كانت تهدف إلى تخويفهم ودفعهم إلى الرحيل إلى "أرض الميعاد".

لا شك في أن مشكلة أثيرت حول اليهود حديثي الدخول إلى أوروبا في القرون الوسطى نتيجة امتلاك بعضهم المال ومداينة الإقطاعيين، وهو ما ظهر واضحاً في أدب شكسبير مثلاً، لكن يهود العصر الرأسمالي كانوا من المفقرين والمهمشين و"المعزولين"، لهذا انخرطوا في الحركات الثورية، لكونهم جزءاً من الشعوب وليس لكونهم يهوداً، إلا أن النظم كانت تحاول إيجاد هذا التمييز ضدهم.

لكن، منذ بداية القرن العشرين أصبح الخطاب المتداول يشير إلى أن وضعية اليهود كـ "شعب" مشرّد، ويعيش ظروفاً صعبة، تفرض أن تعمل "المدنية الأوروبية" على إعادته إلى "أرض وطنه"، أرض الميعاد وفق ما هو وارد في التوراة. في هذه الوضعية تحوّلت المسألة إلى "قضية إنسانية"، قضية شعب مشرّد بلا أرض، مضطهد ومنعزل، بينما وطنه في انتظار عودته منذ قرون طويلة، فهو أرض بلا شعب.

إذن، انطلق الخطاب من مسألة "إنسانية" بحت، ولقد ظل يركّز على هذا الأمر، خصوصاً بعد أن تعرّض يهود لمضايقات كانت تحوّل لقضايا كبرى، ثم بعد حدوث الهولكوست الذي بات المبرّر "الشرعي" لوجود "الدولة اليهودية"، والذي يُظهر "الفعل الإنساني" للغرب الذي عمد إلى نقل اليهود إلى فلسطين. رغم أن في هذه العملية تخلصاً من مفقرين من شعوب أوروبية كان يجري إزاحتهم خارج الوطن، وبالتالي تلافي ثوريتهم. لكن كان وراء الأمر هدف آخر سنشير إليه لاحقاً.

نقطة الربط بين اليهود وفلسطين قامت على التوراة، التي باتت بحثاً في التاريخ يوضّح معالم مرحلة من تطور التاريخ البشري، وعلى ضوئه جرى اختراع مصطلح: الساميون. ولقد تحقق الربط بلا تاريخية واضحة، بل بمنظور أيديولوجي يقتضي ذلك. فلا شك في وجود "اليهود" في تاريخ المنطقة، وحسب إنغلز في رسالة لماركس فإن التوراة هي "تجميع لعادات وتقاليد العرب (وبمعنى أعم الساميين)". فالديانة اليهودية هي نتاج المنطقة ككل الأديان الأخرى، ونشأت بين "قبائل" من المنطقة، هي: العبيرو. وليس واضحاً أماكن استقرارها أو "دولتها" التي يشار في التوراة إليها. لكن لغتها هي لهجة كنعانية، وحرف هذه اللغة هو حرف ما زال يُتداول كحرف سرياني.

لكن ما علاقة اليهود الغربيين بالأمر؟ خصوصاً بعد قرون طويلة من "الغياب"؟

هذه هي الهوة بين الخطاب الذي كان يؤسس دولة نتيجة الحاجة إليها، والواقع الذي كان قد شهد تحولات كبيرة، وظهرت شعوب المنطقة في أطوار حضارية متتالية كان نتاجها الوضع الذي نشأ العرب فيه. وهي الهوة التي كانت بحاجة إلى تزوير التاريخ، وتزييف الحقائق، لبناء رواية "متماسكة"، هدفها تحقيق الربط بين اليهود وفلسطين، رغم أن كثيراً من اليهود هم عرب ويعيشون في بلدانهم العربية.

كل الشغل الذي قام به "مثقفون" في أوروبا، وعممه الإعلام الأوروبي، كان يتمثل في تأكيد أن "وطن اليهود" هو فلسطين، التي هي "أرض الميعاد"، وأن اليهود نتيجة تهجيرهم منها عاشوا مأساة فظيعة لقرون طويلة، ولقد آن الأوان لكي تقوم أوروبا بإعادتهم إلى بلادهم، هذا هو الحل الإنساني الذي هو جزء من "قيم الغرب".


"قيم الغرب"؟


هذه هي الصورة التي رُسمت، والخطاب الذي جرى الشغل عليه بجهد كبير من أجل إقناع اليهود بالهجرة إلى فلسطين، وضمان دعم الشعوب الأوروبية لمشروع إقامة "دولة يهودية" في فلسطين. فلسطين التي صُوِّرت كأرض بلا شعب. هذه هي لعبة الرأسمالية التي باتت بحاجة إلى الاستعمار، والتوسّع، وإلى المرتزقة لتحقيق ذلك، حيث إنها احتلت وسيطرت بجيوش من الشعوب المستَعْمَرة. 


فكرة "الدولة اليهودية" 

حينما زحف نابليون بونابرت إلى الشرق سنة 1799، حمل معه فكرة إقامة "دولة يهودية" في فلسطين، لكن الفكرة سرعان ما تلاشت بعد هزيمته وانسحابه. لكنه حينما وضع دستور فرنسا لم يعتبر اليهود مواطنين، الأمر الذي دفع هؤلاء إلى عقد مؤتمر كان هدفه التأكيد على فرنسيتهم.

الفكرة التي أثمرت هي تلك التي طرحها بالمرستون وزير خارجية بريطانيا سنة 1840، وبالتحديد بعد هزيمة محمد علي باشا، وفرض اتفاق مذل عليه، حصره في حدود مصر (وفرض تدمير الصناعة، وفتح الأسواق وفق الاتفاق الموقع مع الدولة العثمانية سنة 1838، والذي كان يسمح للسلع الإنكليزية بغزو الدولة العلية). حينها أعلن بالمرستون أنه يجب إقامة دولة يهودية في فلسطين، رغم أن النخب اليهودية، ولا اليهود عموماً، كانت في هذا الوارد، ولا طرحت هذه الفكرة، أو فكرت فيها أصلاً، حيث كانت منخرطة في بيئتها الأوروبية انطلاقاً من أنها أوروبية (إنكليزية أو فرنسية أو ألمانية.....). حيث كانت البرجوازية "اليهودية" هي برجوازية إنكليزية أو فرنسية أو ألمانية، أو....ألخ، هكذا بالتحديد. بينما كان المفقرون (العمال والفئات الوسطى) جزءاً من الحراك الثوري في تلك البلدان. بمعنى أنه حين كانت تفكّر وزارة المستعمرات الإنكليزية بـ "الدولة اليهودية" كان اليهود ينخرطون في صراعات مجتمعاتهم، وكان الغيتو يتفكك لمصلحة تحوّل سكانه إلى مواطنين في مجتمع جديد كانت تبنيه البرجوازية التي أخذت تتشكل للتو.

ما كانت تهدف له إنكلترا هو الإجابة عن سؤال: كيف يمكن منع "توسعيّة" مصر، بعد أن فُرض عليها تدمير مشروع التصنيع الذي كان محمد علي باشا قد بدأه؟ فقد كانت إنكلترا، الدولة الأولى في التطور الصناعي وانتصار البرجوازية، قد بدأت سياستها الاستعمارية من أجل الاستحواذ على المواد الأولية والأسواق. وكان الوطن العربي جزء حيوي في مشروعها، يوازي استعمار الهند. لهذا رفضت أن تتطور مصر صناعياً، وأن تسعى لتوحيد المنطقة تحت سيطرتها، بالضبط لأنها سوف تكون منافساً يحرمها من أسواق ومواد أولية. وانطلاقاً من ذلك وجدت أن إقامة "دولة يهودية" في فلسطين سوف يشكّل حاجزاً يمنع مصر من "التوسع"، ويجعل هذه الدولة الجديدة أداة بيدها في مواجهة كل المنطقة. في الحقيقة كان الهدف في جوهره هو إقامة قاعدة عسكرية تتغلّف بمجتمع مدني. وسوف يكون يهود أوروبا هم "مرتزقة الحرب" والمجتمع المدني معاً، وفي الوقت ذاته يجري التخلص منهم في بلدان أوروبا.

هذه هي الفكرة الجوهرية التي تبلورت في ذهن الرأسمالية الإنكليزية، لكنها كانت تحتاج إلى "موافقة" اليهود، هؤلاء الذين كانوا "في صف الثورة" في كل أوروبا، وبالتالي ضد الرأسمالية التي تريد دورهم في مشروع يخدم مصالحها. منذ سنة 1840 إلى سنة 1897 تاريخ عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا، عملت على ثلاثة خطوط متوازية، الأول تمثّل في دفع برجوازيين إنكليز يهود لتبني المشروع وتمويل كل النشاطات من أجله، فظهر روتشيلد الرأسمالي الكبير. والثاني يتمثل في وجود "منظرين" يهود للمشروع، فبدأ الأمر مع موسى هيس، وتوسع وصولاً إلى هرتزل الذي أخذ المشروع على محمل الجد. والثالث وضع اليهود في حالة خوف من مجتمعاتهم، لكي يُدفعوا إلى الهجرة.

ولقد أنجزت هذه المرحلة تماماً بنشوء الحركة الصهيونية على ضوء مؤتمر بازل، مع ميل ضعيف ليهود أوروبا للهجرة إلى فلسطين (وغياب أي ميل لهجرة العرب اليهود أصلاً). فقد تبلورت الفكرة في كتاب "دولة اليهود"، وتشكلت الحركة التي أخذت تنشط من أجل جلب الدعم بمساعدة إنكلترا. لكن لم يكن ذلك كافياً، حيث كان وجود الدولة العثمانية يمنع نقل الفكرة إلى واقع، وحين عُرض الأمر على السلطنة رُفض الأمر.

إن نشوء الإمبريالية أوائل القرن العشرين فرض الميل للسيطرة على البلدان التي لم تتطور بعد، وفرض نشوء الصراع بين الإمبرياليات لتقاسم العالم، كانت الحرب العالمية الأولى هي نتاجه. وفي مواجهة ألمانيا توافقت إنكلترا وفرنسا على تقاسم ما بقي غير مستعمر من الوطن العربي (تركة الرجل المريض)، حيث كانت فرنسا قد احتلت الجزائر وتونس وجزء من المغرب، وإسبانيا المغرب، وإيطاليا ليبيا، وإنكلترا مصر والسودان، وميناء عدن وبعض إمارات الخليج العربي. وفي هذا التوافق الإنكليزي الفرنسي جرى تقاسم المشرق العربي (سورية ولبنان لفرنسا، والأردن والعراق لإنكلترا، وفلسطين تحت الإشراف الإنكليزي)، وتقسيمه إلى "دول" (اتفاق سايكس/ بيكو)، وكذلك التوافق على "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين" (وعد بلفور). الوعد الذي جرى تنفيذه تحت إشراف إنكلترا بعد احتلالها فلسطين بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وبدعم مباشر منها. وما من شك في أن الربط بين تقسيم الشرق العربي ووعد بلفور يوضّح الرابط بين وجود الدولة الصهيونية والوضع الذي يجب أن يفرض على الوطن العربي.

ما يمكن أن يُستنتج من كل ذلك هو أن فكرة الدولة اليهودية لم تكن نتاج وعي "يهودي" ذاتي، ولا كانت التعبير عن الوعي الذي كان يتسرّب إلى يهود أوروبا، هؤلاء الذين كانوا ينخرطون في الحداثة، ويميلون إلى الثورية كجزء من العمال أو الفئات الوسطى المفقرة، التي كانت الرأسمالية الصاعدة تطحنها، وتدفعها إلى الفقر والتهميش. وحتى البرجوازية التي كانت من أصول دينية يهودية لم تكن هي منتجة الفكرة رغم أن بعض أفرادها هو الذي حمل المشروع. بل إن هذا المشروع نتج عن منظور استراتيجي للبرجوازية الإنكليزية التي نشأت قبل غيرها من البرجوازيات الأوروبية، وأخذت تفكر في التوسع الخارجي بعد نصف قرن من نشوء الصناعة واكتمال التكوين الرأسمالي (أواسط القرن التاسع عشر). وإذا كان امتدادها "طبيعياً" نحو الغرب (أميركا الشمالية) نتيجة الهجرات البشرية منذ القرن السادس عشر، حيث فرضت هيمنتها، فقد أخذت منذ أواسط القرن التاسع عشر تضع المنظور الاستراتيجي للسيطرة (لاحتلال) الشرق. ولقد احتلت الهند قبل احتلال المشرق العربي، الذي كان يخضع للسلطنة العثمانية، وكانت سنوات النصف الثاني من القرن العشرين هي سنوات البحث عن وراثة "تركة الرجل المريض".

ضمن هذا البحث كان منظور البرجوازية الإنكليزية يقوم على منع تطور المنطقة أولاً، ولهذا واجهت محاولة محمد علي باشا لبناء الصناعة وتحديث مصر والشرق العربي، وبناء "إمبراطورية عربية". المحاولة التي قامت بالتحالف مع فرنسا، قبل أن تنتصر الرأسمالية فيها بشكل نهائي، وفي مسارها من أجل بناء الصناعة وتحقيق الحداثة. ومن ثم كان منظورها، ثانياً، يقوم على وضع استراتيجية بعيدة المدى لضمان تكريس التخلف والتفكك في المنطقة، وهذا ما أفضى إلى تبلور فكرة وجود "دولة يهودية" في فلسطين تكون حاجزاً يفصل الشرق عن الغرب في الوطن العربي، ويقف عائقاً أمام "توسعية" مصر، التي تقوم بذلك كلما حاولت النهوض انطلاقاً من "شعور ذاتي" بأن نهوضها مرتبط بدورها العربي بالتحديد. وفي الوقت ذاته يكون رادعاً لكل محاولة نهوض في الوطن العربي، ومن ثم يحلّ محل الحاجة لاستجلاب قوات من إنكلترا ذاتها.

بالتالي ما يمكن قوله هنا هو أن فكرة "دولة اليهود" هي فكرة استعمارية، أنتجتها البرجوازية الإنكليزية في إطار منظورها لاستعمار الشرق، ومن أجل ضمان تفكك وتخلف الوطن العربي لكي تسهل السيطرة عليه ونهبه. ولقد جرى اختيار فلسطين لأنها المفصل الرابط بين المشرق والمغرب، والحادّ من تمدد مصر شرقاً (وهي الحالة الطبيعية لمصر عبر كل التاريخ السابق)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نتيجة "سهولة" اختراع أسطورة تربط اليهود بفلسطين نتيجة الوجود التاريخي لليهود في المنطقة، هؤلاء اليهود الذين كان التفكير حينها يتمثّل في التخلص منهم.

حين صدر قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1947، ومن ثم قيام الدولة الصهيونية في 15 أيار/ مايو سنة 1948 كان عدد اليهود في فلسطين محدوداً، ويحتلون 6% من أرض فلسطين. رغم أن الجزء الأكبر أتى بعد استلام أدولف هتلر السلطة في ألمانيا سنة 1933، وممارساته ضد اليهود الألمان. وبالتالي أقيمت الدولة بدعم عسكري قوي من الاحتلال الإنكليزي، مباشرة من خلال الدعم العسكري، وعبر تكريس نظم تابعة لها تحيط بفلسطين في الأردن ومصر خصوصاً. أما الهجرات التالية فقد جاءت نتيجة الضغط على اليهود العرب من قبل الحركة الصهيونية عبر التفجيرات والقتل، وأيضاً بعد أن فشل هذا الأمر من خلال النظم التي فرضت طرد هؤلاء إلى الدولة الصهيونية تحديداً.

ولا شك في أن كل ذلك يوضّح أن ميل اليهود لم يكن نحو "العودة إلى أرض الميعاد" بل كانوا يعتقدون أنهم جزء طبيعي من المناطق التي يقطنونها، وأن هذه البلدان هي بلدانهم. ولهذا نقلوا عاداتهم وثقافتهم معهم حينما جرى ترحيلهم أو اضطروا إلى الهجرة إلى فلسطين. بمعنى أن الدين لم يكن الرابط الذي يجمعهم، ولا كان الأساس الذي يفرض عليهم العودة إلى "أرض الميعاد"، وبالتالي كان التركيز على الدين هو لإيجاد هذا الرابط بينهم، ولربطهم بـ"أرض الميعاد"، لكنه ليس التعبير عن هويتهم في كل الأحوال، وهذا ما كانوا وما زالوا يحسون به، فهوياتهم تتمثل في الثقافات التي عاشوها، واللغة التي تكلموها في بيئاتهم السابقة.

وكل ذلك يوضّح التناقض الكامن في "المشروع الصهيوني" بتشكيله الرأسمالي. فاليهودية هي غطاء توظيف يهود في مشروع رأسمالي للسيطرة والنهب، من خلال تحويل اليهود الى مرتزقة في جيش إمبريالي مهمته حراسة تخلف وتفكك الوطن العربي. وهذا يطرح السؤال حول المدى الممكن لبقاء "اللُحمة" التي يقيمها الدين قابلة للاستمرار على ضوء استمرار حالة التخويف التي حكمت اليهود من طرف، والروابط الأصلية التي تحكم هؤلاء من طرف آخر، وأزمة المشروع ككل من طرف ثالث.