مفاتيح الشاعر الكبير

19 مايو 2015
+ الخط -
الشعر الكبير يصدر عن مأساة ما، لها ما يشبه الأحداث الأسطورية، أو أن هذه الأحداث تتعمّق وتتلوّن لتصبح أسطورية تدعم مأساتها. هكذا يصبح الشعر كبيراً بالحدث الكبير، ويتحول الحدث إلى كبير بالشعر الكبير.
ويبدو أن ذلك صحيح دائماً، أو في معظم الأحيان. وكأني بالشعر لا يقبل هذه العادية ولا هذا المألوف حتى في التفاصيل التي تعصف بنا جميعاً. ويمكن أن يُصاغ الكلام السابق بلغة أخرى، ذلك أن الشاعر الكبير يَنْقَضُّ على واقعه ويَنْقُضُهُ، ويحيل ركامه الرمادي المهشّم والمهدّم إلى بنيان مدهش لا يمت الى الواقع الأوّل بصلة. فكأن ميلاد الشاعر إيذانٌ بالتحوّل، أو لعلّه الحجر المتيقظ يُقذف وسط بركة راكدة، فنكتشف الأمرين معاً؛ الحجر الذهبي والبركة الآسنة.
هكذا هم الشعراء الكبار دائماً، يضيئون ما حولهم، يكشفون ويدمرون، ويرممون، ثم يمضون. والجروح التي يفتحونها وتلك التي يداوونها تشكل فتحاً آخر من فتوح الروح على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي كذلك .
ما الذي يفعله الشاعر الكبير بنا؟ وما الذي يضيفه إلى معارفنا؟ وما الذي يهزّه في وجداننا؟
ببساطة، يُجمّع حكاياتنا الصغيرة ليؤلّف منها الحكاية الكبيرة التي تجمعنا معا. ويكتشف فينا المشترك والعام والأصيل والحقيقي والجميل، أي يكتشف الجماعة فينا، وأجمل ما فيها من خصائص. وهو بحفره عميقاً في تجربته، يقوم عملياً بعملية حفر معرفية وجمالية ونفسية في أعماق جماعته. عملية من أمتع الرحلات وأكثر المهمات تعباً وجمالاً، إذ يعيد جماعته إلى نفسها، ويضيء حاضرها بماضيها، ويزاوج بين أرواح أسلافها وأحفادها، ويؤلّف بين تاريخها ومكانها، ويصوغ العلاقة الأبدية ما بين الجماعة ورؤاها واجتهاداتها الروحية والعقلية داخل شرطها الزماني والمكاني.
وهو يفعل ذلك، من منطلق الانتماء لجماعته، ولا أقول الحبّ بمعناه العاطفي أو الأخلافي. فالانتماء شعور لا علاقة له بالحبّ أو الكره أو الأخلاق أصلاً. هو مجموع قوّة الأسلاف وقوّة المكان وقوّة الإرادة معاً. وأكاد أقول إن الانتماء تخلقه اللغة وما فيها من دلالات جمالية وروحية ترافقنا منذ وعينا الأوّل الذي يبقى فينا إلى الممات.
باختصار، الشاعر الكبير يعيد إلينا ما نسيناه عن أنفسنا، وما تصورنا أننا لم نعد نحمله أو نتميّز به أو نعتدّ به. ينبهنا إلى ما يمكن أن نصير إليه أو نحقّقه. يكتشف المهمّل فينا الذي لا نريد رؤيته ولا نستعمله؛ المهمل الكريه، والمهمل الجيد. وبهذا يتحوّل الشاعر إلى دليل إثبات للجيد ودليل إدانة للكريه في الوقت ذاته.
بهذا المفهوم، فإن أقوى مفاتيح النقد للشعر هي تلك المفاتيح التي ترى الإطار العام الذي تخفق فيه القصيدة؛ أقصد ذلك المفتاح الذي يرى المسافة بين القصيدة / الذات، والقصيدة / الجماعة، بين القصيدة الممكنة والأخرى المتوقعة، بين ما يقال عنّا وما نتوقعه عن أنفسنا. أقول ذلك لأن الشعر لا يخرج عن لغته. واللغة لا تخرج عن مكانها ولا عن دلالاتها. وبهذا المعنى فإن الشعراء يختلفون كما شعرهم. ولا ينقص هذا من الشعور الإنساني، بل على العكس، فإنه يعمّق المفهوم ويزيد من ثراءه، ويعني هذا أن الشعر ابن جماعته التي يصدر عنها ويعبّر عنها، مهما ادّعى البعض أن الشعر إنساني يخرج عن طور خصوصيات المعرفية والمكانية والتاريخية. فما يفرق بين ابن حمديس الصقلّي ووردز وورث - وكلاهما هامَ بالطبيعة وتجليّاتها - مرجعيتاهما الروحية والجمالية اللتان صيغتا من خلال لغة مختلفة حملت تاريخاً ودلالات مختلفة. لا يمكن للشعر أن يتحوّل إلى رموز رياضية مكتفية بذاتها. الشعر أولاً وأخيراً دلالات وإحالات. والدلالة كما الإحالة تحتاج إلى تاريخ روحي ومزاج صاغه المكان والجهد .
الشعر يفشل عندما يفقد البوصلة، ويقطع الصلة بالتاريخ والتجارب المتراكمة والرموز المثقلة، وبما أنجزته روح الجماعة على مدى كينونتها.
والشعر يفشل عندما يتمثّل بتجربة أخرى، ويستحضر رموزاً بعيدة. ببساطة، الجماعة تُسقط من حسابها من لا يأخذها بحسبانه، وتلغي من يلغيها، وتشطب من يشطبها. هذا قانون، ولو لم يكن صحيحاً لكان هوميروس أحد شعراء العربية، ولأصبح المتنبي أحد شعراء الإنحليزية.
وأعود الى أدوات النقد المهمة للشعر الكبير، فأقول إن من أقوى المفاتيح أيضاً لفك مغاليق النص، ذلك المفتاح الذي يرى في الشعر أجمل وأنقى وأصفى جماليات الجماعة التي تقدّسها وراكمتها خلال القرون. الشعر الكبير يصنّف أسس الجمال بأشكاله المختلفة؛ اللغوية المعمارية، البصرية والسمعية، المعنوية والمادية.
ومثل هذا الشعر يعيد تخليق أشكال الجمال في كتل سمعية وبصرية، معتمداً على خيال نظيف غير مهشّم أو مدمّر ولا مُدّعى. خيال فسيح ممتدّ، لا واهم ولا مريض، ومن خلال هذا الفضاء نرى ونلمس ونسمع كيف تبدو أولوياتنا الجمالية وهي تُبنى من جديد على يد شاعر كبير.
المساهمون