القراءة شريان الترجمة

21 ابريل 2015
رسوم جدارية في القصر الملكي في برشلونة
+ الخط -
يَجتمع ضوء القمر مُركزًا، وكأنه يسطع فقط في المكان الذى تقف فيه، فيجعلك ترى كلّ شىء بوضوح لم تره من قبل، أشبه بهالة من نور تحوطك لتعزلَ عنك سواد الظلام الشاسع، ولتنير لك السطور التى تقرأها، تهديك بنورها الجلي إلى معاني المفردات حتّى تفهمها بشكل واضح؛ يحدث ذلك عندما تترجم نصًا، فتشعر أنك قرأت ما ورد فيه بلغتك الأصلية. لا توقفك صعوبة معاني كلماته، ولا تنتابك حيرة اختيار المرادفات المناسبة؛ لأن قراءتك المستمرّة مهّدت لكلّ ذلك من قبل.
لا تهم مدى صعوبة النص أو تشابكه، ما دام المترجم يقف على أرض صلبة لا تميد، يستند فيها إلى لغته الأم. ولو بدت أجزاء من النص غامضة بالنسبة إليه، يستطيع أن يشقّ ضباب الغموض الذى يحاصر سطوره، بقراءته وثراء معلوماته.
يظنّ الكثيرون أن سرّ الترجمة يكمن في قوّة اللغة الأجنبية فقط، ولكن كيف سيكون الحال إذا كان المترجم يفهم النص جيدًا، ولكنه يعصر ذهنه لإيجاد مرادفات مناسبة، تجعله يترجم إلى لغته الأم بسلاسة؟ أو يقف قلمه عاجزًا عن الترجمة، أو حتى تنبثق إلى ذهنه جميع الصور البلاغية بشكل مبهم مشوش، وكأنه يرى فراشة مبهجة الألوان تطير أمامه في الأفق، تلحقها عيناه، ولكن تعجز يداه عن الإمساك بها؟
ويخشى الكثيرون الترجمة المتخصصة، وكنت أوّلهم. ولكنني اكتشفت في ما بعد، أن بوسع كلّ مترجم ترجمة نصوص متخصصة؛ لأن شريان الترجمة ببساطة هو القراءة. فمن يتخصّص في ترجمة مجال واحد، يكون في الأصل، قرأ كثيرًا فيه، احتك بمصطلحاته وهضمها حتّى باتت لا تشكّل عائقًا أمامه.
كانت أوّل تجربة ترجمة خضتها على الإطلاق فور تخرجي، عندما عزمت على ترجمة كتاب عن الطبّ النفسي للأطفال، وعلى الرغم من بساطة أسلوب الكاتب، إلا أني وجدت نفسي لا أفقه شيئًا منه. أصابتني خيبة أمل، وظننت أن المشكلة في فهمي للغة الصينية. لكن سرعان ما وجّهني أُستاذي ومعلمي في الترجمة، نحو شراء مجموعة من الكتب المتخصّصة حول الموضوع. حين بدأت بقراءتها، أدركت أن المشكلة لم تكن في مستوى لغتي الصينية، بل في ما يحتويه الكتاب من مجموعة كبيرة من الكلمات والمصطلحات الطبية المتخصّصة.
لا ينبغي على المترجم أن يرضخ إلى الضغوط المتعلقة بإنهاء ترجمة النص في أوقات قياسية، بل وقد تكون أحيانًا خيالية؛ لأن أية ترجمة تحتاج إلى وقت يقدّره المترجم، وقت غير مقترن بعدد الكلمات أو طول الصفحات. السرعة في الترجمة مطلوبة، ولكن شرط ألا تكون أبدًا على حساب دقّة الترجمة أو أمانة المترجم. بعض ممن يبحثون عن مترجم، سواء أكان مترجمًا فوريًا (شفهيًا) أو لا (كتابيًا)، يظنون أن المترجم ما هو إلا قاموس إلكتروني متحرّك أو "جوجول ترانسليشن"، يترجم من / أو إلى اللغة الأجنبية في بضع ثوان، ويغضون الطرف عن مراحل عملية الترجمة، والوقت الذي قد يحتاجه المترجم للقراءات المتعددة حول الموضوع الذي سيترجمه.
كلّما قرأ المترجم تفتحت زهرة في عقله، غمرت بأريجها أفكاره وجعلته قادرًا على تقديم المزيد من الترجمات المتنوعة. لكأن طريقًا يرتسم أمامه وعند نهايته شجرة زرعها بنفسه منذ أمد بعيد، يجني كلّ ثمارها بشكل متتالٍ. تتيح الترجمة لممتهنها فرصة اكتشاف أشياء جديدة لم يكن يعلم بوجودها في هذا العالم. هو أشبه بباحث في الآثار يكتشف أجزاء مفقودة من التاريخ. وتوجهه قراءته لإيجاد كتب ونصوص في تخصصات مختلفة تستحقّ ترجمتها، وفيها يلتمس معارف وعلوما جديدة، تروي تعطّش مجتمعه واحتياجه إليها.
على المترجم أن يكون مُطَّلِعًا وقارئًا، يصبو إلى تجديد أفكاره والانفتاح على موضوعات مختلفة؛ لأن الترجمة من دون قراءة، تخلق نصوصًا مشوهة، نصوصًا جامدة وركيكة، يلتزم فيها المترجم فقط بتلك الكلمات التي يخرجها من القاموس، من دون فهم المعاني العميقة التي قد تحملها كلمات النصّ الأجنبي، أو المصطلحات التى تحتاج إلى شرح وتوضيح، فيشعر القارئ أنه يقرأ قصاصات مجمّعة من جرائد مختلفة، الأمر الذي يفقد تركيزه وفهمه لما هو مكتوب.
الترجمة أكثر تعقيدًا بكثير من أن تُختزل في فكّ طلاسم لغة بعينها؛ لأن خلف السطور التى تُترجم، تتوارى ثقافات وحضارات ومعان ومصطلحات. ولا يقتصر دور المترجم على تحويل نص أجنبي إلى لغته الأم، بل إن جزءا من مهمته أن يشرح في الهوامش كلّ ما ورد فيه من معلومات، تضيف إلى القارئ معارف جديدة؛ لا سبيل للمترجم لفعل ذلك إلا من خلال القراءة. فما الذي يجذب شخصا ما إلى قراءة نصّ مترجم، إذا لم يشعر أن ما يقرأه بمثابة نافذة ينظر منها إلى عالم مختلف بعيد؟ عالم ممتلئ بأشياء يتعرّف إليها للمرة الأولى عن طريق لغته الأم؛ فيفيض قلبه بمشاعر تقدير وعرفان لذلك الصديق الذى اجتهد في الترجمة، وجلب إليه معلومات كانت تبدو بعيدة المنال؛ وضعها بين يديه في كتاب أو صفحات جريدة.
المساهمون