الكتابة في درجة الصفر*

19 أكتوبر 2015
+ الخط -
فيما أمسك، هذه اللحظة، بالقلم لأكتب - إذ أنا أحد المنقرضين الذين ما يزالون يكتبون بالقلم! - يغمرني إحساس بحرية مرحة ومخيفة في آن. فقد قرّرت منذ أربع وعشرين ساعة قطع صلتي بأي مصدر للأخبار والأنباء والتصريحات والتحليلات المتعلّقة بالاحتراب والقتل والخطف والتدمير، كما التي تتحدث عن الكوارث الطبيعية من زلازل وفيضانات وحوادث سير وغيرها. فلم أشاهد تلفازاً ولم أفتح ولو كوّة على الإنترنت؛ لم ألتق أحداً، ولم أتبادل وأيّ أحد من أسرتي كلمة. ومغلقاً هاتفي، لم أسمع من أحد.
 
أربع وعشرون ساعة قضيت معظمها نائماً، بمساعدة "حبة" عجيبة، مستغرقاً في منامات يصلح كل واحد منها ليكون رواية من الأدب الغرائبي، في أبعد خيالاته شططاً.
هي المرة الأولى في حياتي التي أجرؤ فيها على الانقطاع التام عن كل ما يجري حولي في العالم، ذاك البعيد، أو هكذا أظنه، وذاك القريب، أو هكذا أحسبه.

وكان اتخاذي لقرار كهذا وتنفيذي له، ضرورة دفعتني إليها كآبتي التي باتت تلازمني، جرّاء متابعتي الحثيثة للأنباء والأحداث. كآبة صار من شأنها، أن تحول دوني وما أحب التأمل فيه واختباره، وكتابته من ثمّ.

ها أنا أجلس إلى منضدة الكتابة، بعد أن مسحت عن سطحها ما تراكم من أوراق قديمة، وكتب قيد القراءة، واضعاً رزمة من الورق الأبيض أمامي، وقلمي بين أصابعي. يا للحرية!
علبة تبغي التي كادت تفرغ، ومنفضة السجائر التي تكاد تطفح، ليستا عائقين، فلطالما كانتا وفيتين لي أثناء الكتابة!.

كم هو جميل ونادر أن يخليَ المرء ذهنه وروحه من كل مرارات الحاضر، ليلج بأناة وتطلعٍ أعماقه وشهواته وذكرياته الأشد حميمية، فيخط كلمات ينتقيها انتقاء الجوهريّ ماساته، ويصوغ منها نصه الذي قضّى عمره يحلم بكتابته، معتدّه لبنة، لو لبنة واحدة، في البناء الخالد لنتاج "الإنسان" عبر الأزمنة.

اقرأ أيضًا: كورد يقلّم بالعطر أشواكه

إذن سأكتب ما يحلو لي، ما أشتهي كتابته، ما أعتبره صميم ذاتي. ولن يعكر عليّ صفوي هذا، خبر مؤلم عما يحدث في القدس مثلاً، عن النساء والشبان المستنفرين هناك للدفاع عن الأقصى؛ أو نبأ مزعج عن آخر إنجازات التحالف الروسي الأميركي الغربي الإيراني في "تحرير" سورية. ولن تشوشني معاناة المهجّرين الفارين الحاملين أرواحهم المنهكة وعذاباتهم وأطفالهم ومخاوفهم وآمالهم، وهم يمخرون البحار بزوارق العبث، ويقطعون الفيافي و"القفار" ليصلوا، إن شاءت الأقدار رعايتهم، إلى جنة موعودة، تنسيهم جهنماتهم التي اعتادوا على تسميتها أوطاناً. لن تشغل بالي مصائر أصدقائي في ليبيا والعراق واليمن ومصائر بلدانهم. لن تثير غصّتي وتعتصر دمعي مشاهد تدمير تدمر، وتحطيم آثار الأسلاف؛ ولا مناظر براميل الموت الملقاة عشوائيا على مدن وقرى لطالما كانت هي وساكنوها جزءًا من تاريخ روحي الشخصي. لن يستفز حزني ونقمتي تذكري عدد البشر ممن أعرف وممن لا أعرف، وهم محشورون في معتقلات أوطانهم وسجونها، تمارس في حقهم أبشع صنوف التعذيب والإذلال، بعيداً من أي كاميرات أو إعلام.

ها أنا الآن معافى. فما الذي، بعد كل شيء، كان بإمكاني فعله للحيلولة دون استمرار كل تلك المآسي؟ وما الذي جنيته من المراقبة والمتابعة والاستهجان والغضب والحزن، غير الخيبة والإحباط؟. حتى أني بتّ - لو كنت ممن يؤمنون بفكرة المؤامرة - أشك بأن ما يحدث في العالم من كوارث، لا يعدو أن يكون مؤامرة عليّ شخصياً، لأكف عن الكتابة وأغرق في اليأس والقنوط. ألسنا موجودين لعيش الجمال وإبداعه، كتابة وفناً، أكلاً وحباً، ضحكاً ورقصاً؟ فما لهذا القبح يغطي بعباءته القذرة كل ما هو برسم الجمال وما هو توقٌ إلى وصاله؟

اقرأ أيضًا: من يحتاج إلى الشعر؟

أنا في هذه اللحظة نقي ومصفّى ونظيف، كجنين بعمر أربع وعشرين ساعة. إذن سأكتب ما أريد كما أريد: سأكتب عن السروة أمام بيتي، اكتشفت هذا الصباح أنها طالت أمتاراً ثلاثة منذ زرعتها بيديّ قبل عشرين عامًا. سأكتب عن الحجارة غريبة الشكل التي اعتدت جمعها طوال سنوات، ووضعت كلا منها في زاوية من زوايا حديقتي الصغيرة، لعلها أنجبت حصى صغيرة في غيابي. سأكتب عن "خاتيا بونياتشيفللي"، عازفة البيانو، وهي تحول أصابعها إلى فراشات تتقافز بفرح على أصابع البيانو، مؤدية قطعة تعصى على الوصف، لشوبرت. سأكتب عن تلك اللوحة التي وقفت أمامها مذهولاً في متحف برادو في مدريد، تمثل رجلاً ملتحياً بثدي وحيد يرضع طفلاً. سأكتب عن رغبات ابنتي وابني، واضعاً إياها بين مرايا رغباتي المتقابلات، وفق تعبير ابن عربي. سأكتب عما سقط مني وضيعته فيما كنت أتسلق جبل قاسيون، ذات نهار بعيد ونسيت ما هو. سأكتب عن صدَفة ألقتها أمواج البحر إلى رمل الشاطئ، ممعناً في تأويل فعلتها تلك. سأكتب عن البحر بصفته محبرة وبصفته مقبرة، عن خروج أوّل الحياة منه، لتلقى الموت على يابسة يحيط بها. سأكتب عن حبات المطر بالغة الصغر والحدة، وهي تهمي محملة برائحة السماء، وكيف داعبت وجهي أواخر أيلول "ذي الذيل المبلول". سأكتب عن سكان التراب، بذوراً وحشرات ومخلوقات غامضة أخرى، وهي تفتح عطشها وشبقها، لتتلقى تلك القطرات.
نعم، أنا حر في اختيار ما تفرحني كتابته، ويشيع الحبور والمتعة لدى قرائه. فالأربع والعشرون ساعة الماضية، كانت كافية لضخ ما احتاجه من صفاء ذهني وسكينة نفسية. فالنسيان تمّ والغفلة اكتملت، والإهمال بجوهره اللا مبالي يملأ عطفيّ بحرية افتقدتها طويلاً. لكن امنحوني، قبل أن أشرع بالكتابة، أن أخرج لأستطلع سبب هذه الضوضاء التي تملأ الشارع أمام بيتي.


* عنوان كتاب لرولان بارت.
دلالات
المساهمون