ساحرة الإبهار: زها حديد

05 ابريل 2016
زها حديد (Getty)
+ الخط -
ماتت زها حديد، المعمارية العالمية بريطانية الجنسية والإقامة والمهنة وعراقية الأصل، في ميامي في فلوريدا بالولايات المتحدة، إثر نوبة قلبية في اليوم الأخير من شهر آذار 2016. كان عمرها خمسا وستين سنة، وكانت في قمة إبداعها وعطائها عندما فاجأها الموت وهي على سفر. وكانت أيضاً، وهذا مهم بالنسبة للقراء العرب، في نهاية مرحلة استعادة انتمائها العراقي والعربي، بعد أن أعادت إعلان هويتها. واكتشفها العرب والمسلمون أيضاً في بدايات الألفية الثانية: امرأة معمارية عراقية تمكنت بفضل موهبتها الفائقة وشخصيتها القوية ومثابرتها وحنكتها من فرض نفسها وبقوة في عالم العمارة الذي ما زال عموماً حكراً على الرجال.


جاءت استعادتها كالعادة متأخرة في العالم العربي، ولكنها مع ذلك جاءت عبر مشاريع عدة في أكثر من مدينة عربية. واستعادات كهذه قلّما تجيء في عالمنا العربي الذي يبدو أنه يتبرأ عادةً من أبنائه وبناته الذين يتفوقون عالمياً جهلاً وحسداً ومكابرةً أكثر مما يبتعدون هم عنه بفعل الهجرة والتفتيش عن موئل لأحلامهم لا تتيحها لهم بيئة نشأتهم وعقلياتها المغلقة. 

ولدت زها حديد في بغداد عام 1950 قبل الانهيار الثقافي الذي بدأ بعد انقلاب تموز 1958 ولم يتوقف إلى اليوم. أسرتها من الموصل أصلاً وثرية. والدها محمد حديد، اقتصادي وسياسي معروف شارك في تأسيس الحزب الوطني الديمقراطي وشغل عدة مناصب سياسية مهمة في الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الفائت. كبرت زها في "البغداد" نفسها التي عرفت بكثرة مثقفيها وقرائها الذين دعموا بشهيتهم إلى المعرفة سوق طباعة الكتب - غير القانونية على الأعم - في بيروت والقاهرة. وكبرت في البغداد إياها التي حاولت ولوج الحداثة في نهاية العهد الملكي عبر مشاريع معمارية حداثية صممها أكبر معماريي العالم في نهاية الخمسينيات إثر ارتفاع مردود النفط، ونفذ منها عدد من المباني المهمة، عاشت زها مع عائلتها في واحدة منها. ودرست في مدرسة كاثوليكية غرست فيها الجدية والانضباط والتطلع باتجاه أوروبا كمركز إشعاع حضاري. ولكنها أيضاً كبرت في البغداد التي كان توالي الانقلابات عليها يخنقها ويقتل جذوة الإبداع فيها التي كانت بحاجة لحرية أكبر لتبقى يانعة.



ذهبت زها إثر انتهاء تعليمها الثانوي، كما والدها قبلها، إلى الجامعة الأميركية في بيروت، ملجأ العرب القادرين والطامحين للمعرفة العالمية في مشرقنا العربي. أحبت العمارة ولكنها درست الرياضيات هناك مما ولا بدّ أثر في تكوينها الفكري وفي ميولها التصميمية والتشكيلية فيما بعد. ذهبت بعد ذلك، وكما والدها قبلها والمئات غيره من العراقيين من الطبقة القادرة، إلى لندن (أرجو أن يحاول القارئ لفظها على الطريقة العراقية، لَندُّنّ) عام 1972 لاستكمال دراستها في عاصمة الإمبراطورية التي ضمت يوماً ما العراق وشكلت حدوده المعاصرة. هناك سمعت صوت قلبها وعقلها معاً وسجّلت في مدرسة العمارة العريقة والشهيرة، الـ AA، التي يعني اسمها "الجمعية المعمارية" وتخرجت منها عام 1977. تأثرت خلال دراستها بروّاد الحداثة من المعماريين الكبار مثل ميس ڤان در روه، ولوكوربوزييه، وإيريك مندلسون، وبشكل خاص بالفنانين الروس التفوقيين (Suprematists) مثل كازيمير ماليفيتش وإيل ليسيزكي الذين آمنوا بتصعد الفن عن كل ما عداه من الاعتبارات وبالتعبيرية المتفوقة للأشكال الهندسية الأساسية. كانت الـ AA خلال سني دراسة زها، واحدة من أكثر معاهد العمارة في العالم ثورية وابتكاراً. أمّها العديد من المعماريين الذين ستصبح أسماؤهم علامات في عالم العمارة، وعلى رأسهم طبعاً زها نفسها ومعلمها ومرشدها الأول المعماري الهولندي العالمي ريم كوولهاس (Rem Koolhas) وشريكه إيليا زنغليس اللذين حببا إليها التعامل مع العمارة على أنها حقل ابتكار لا يحده عائق مادي أو إنشائي أو اجتماعي، مما لاقى ولا بدّ هوى في نفس هذه المرأة العراقية التي كبرت، وهي تتحدى المواضعات الاجتماعية التي أطّرت حياة المرأة العربية (بمساعدة من أسرتها المتعلمة والمنفتحة طبعاً) والتي درست الرياضيات وأحبت العمارة والتشكيل الهندسي ورغبت بالبروز والتفوق. 


خيال سابق على الإنشاء


بدأت زها حياتها المهنية بالعمل في مكتب كولهاس وزنغليس OMA في روتردام في هولندا، وسرعان ما أصبحت شريكة في هذا المكتب الرائد عالمياً، قبل أن تنطلق في رحلتها الفردية كمعمارية مستقلة وتؤسس مكتبها، "زها حديد معماريون" عام 1980، الذي أصبح يضم اليوم 400 مصمم ومعمار. ظهر اسمها أول ما ظهر، حين فازت عام ١٩٨٢ بمسابقة نادي القمة في هونغ كونغ (The Peak Club) ونشرت المجلات تصميمها الفائز الذي بدا كأنه تشكيل تفوقي أنيق ومعقد من الحديد والإسمنت المسلح يتداخل مع سفح جبل كوولون المطل على المدينة في امتدادات انسيابية متداخلة ومتقاطعة ومتراتبة، حوت كل الفراغات المطلوبة وشكلت لوحة مبهرة ثلاثية الأبعاد. لم ينفذ المشروع لأن المعرفة الإنشائية لم تكن متطورة بالدرجة الكافية لكي تحسب إنشاء ما بدا وكأنه مجموعة من الموشورات الانسيابية التي تتحدى الجاذبية وتتطوح في الفضاء، ولكنه وضع اسم زها حديد على خارطة العمارة العالمية كمعمارية "غير شكل" واعدة ومبدعة ومبتكرة وصعبة.

في الحقيقة لم تستطع زها بناء أي مشروع من مشاريعها التي كانت تفوز في المسابقات في السنين العشر الأولى من امتهانها العمارة. اعترفت بها المهنة ولكنها لم تعطها الدعم الكافي لإقامة هذه المشاريع الخيالية التي تتحدى قوانين الهندسة والفيزياء بخطوطها وحجومها وفراغاتها وانسيابيتها التي تتكامل عادة مع خطوط الطبيعة حولها أو تتحداها لتبرز مضامينها الكامنة. درّست زها استوديوهات تصميم خلال هذه السنين في أهم مدارس العمارة في أوروبا والولايات المتحدة. وخلبت لبّ جيل كامل من طلاب العمارة بمقترحاتها الجريئة ونظراتها المستقبلية لعمارة متحررة من قوانين الإنشاء والتشكيل وسطوة التاريخ أو متطلبات الاجتماع والانتماء والسياسة. كانت أستاذة من الصعب إرضاؤها. لا تهادن في آرائها ولا تعترف بالضعف الإنساني، تفتش عن التفوق والإبداع ولا ترمي بالاً للعادية والنمطية والوسطية. كانت العمارة بالنسبة لها وسيلة للبحث عن المتعالي والمتفوق وغير المروض أو المدجن من الإمكانات التي تعانق الابتكار العلمي التكنولوجي والفن التشكيلي المعاصرين، وتستخلص منهما أشكالاً جديدة لم يكن ممكناً حتى الحلم بها حتى وقت قريب. أشكال لا تعترف بحدود هندسية أو جاذبية أو مادية بل تنطلق بانسيابية قصوى تتعانق وتتقاطع وتتداخل وتتواكب لكي تشكل كلاً فراغياً معقداً، أسماه شريك زها حديد، پاتريك شوماخر (Patrick Schumacher) التصميم الحدودي (parametric design)، ولكنه مبهر. فتطويع الإبهار كان واحداً من أهم إنجازاتها.

ومع ذلك فقد كانت أوائل مشاريعها المنفذة هي الأقل خيالية من تصاميمها على الرغم من أنها تعاملت مع مهندسين إنشائيين عباقرة سخّروا الإنشاء للتصميم. أول مشروع مبني لها بعد سلسلة من الأعمال الصغيرة الداخلية هو مركز إطفاء ڤيترا في مدينة ڤييل آم - راين (Weill am Rhein) في ألمانيا عام 1993، ظهرت فيه كل العناصر التي ستجعل من عمارة زها عمارة متميزة، عمارة "زهاوية" لا يمكن نسبتها إلى أحد غيرها. في تشكيل إسمنتي انسيابي وخطّي متقاطع على زوايا حادة وبعض عناصره يحلق في الهواء، تمكنت زها من احتواء البرنامج الوظيفي بكامله من دون التضحية بأي فكرة تشكيلية. رفع هذا المشروع من سمعتها، ولكنها مع ذلك لم تستطع بناء أي من مشاريعها الفائزة في سنوات التسعينيات لتعقيدها وصعوبتها من جهة، وبسبب من المقاومة الشديدة للقوى المحافظة في المهنة، خاصة مع دعم الأمير شارلز ولي عهد بريطانيا لرؤية معمارية تقليدية استهابت القفزات المستقبلية التي مثلتها أعمال زها وبعض المعماريين الثوريين الآخرين الذين انتهوا بأن تسيّدوا الساحة مع بداية الألفية الثالثة.


زها و"السجادة المدينية"


أما المشروع الذي أدخلها ميدان العالمية حقاً فهو "مركز روزنتال للفن المعاصر" في سنسيناتي، أوهايو، في الولايات المتحدة الأميركية، الذي بُني بين 2001 و 2003. هذا المبنى الصغير نسبياً حافظ على توقيع زها عبر تراكب حجوم الموشورات المستطيلة وحادة الزوايا أفقياً لتشكل طوابق المركز، مع زوايا ناتئة وانزلاقات ذكية وتغيير في لون وملمس مادة البناء في الطابق الرابع من الإسمنت الرمادي الغامق إلى الأسود الناعم المعدني. كل ذلك متداخل مع مساحات زجاجية غير متوازية تتقاطع مع سطوح الإسمنت والحديد لتشكل ما يشبه أحجية تركيبية من الشفافية والإغلاق، مما يوحي بلوحة تفوقية ثلاثية الأبعاد. لكن التفصيل الأكثر عمقاً معمارياً وعمرانياً في المبنى هو ما أسمته زها "السجادة المدينية" وهو استخدام سطح الرصيف أمام البناء كبداية لسطح مستمر يصعد بتؤدة نحو الأعلى داخل رواق المركز لكي يستدير شاقولياً مشكلاً الجدار الخلفي وبدايات الانحدارات الصاعدة إلى المستويات العليا من المركز حيث صالات العرض المختلفة. بهذه الحركة البسيطة ولكن شديدة العمق، تمكنت زها من إنجاز ما نظّر له مفكرو العمارة لأجيال في أنها أدخلت المدينة إلى فراغ المؤسسة خالقة بذلك فضاء عاماً حقيقياً يكسر حدود الخصوصية البصرية والعمرانية.

انهالت الطلبات على زها بعد مركز سنسيناتي وابتدأ نجمها بالسطوع أقوى وأشد بين 2001 و 2007، بنت متاحف ومراكز مدنية وجسوراً ومحطات في أوروبا، وبشكل خاص ألمانيا والنمسا، واليابان والصين بميزانيات كبيرة ونتائج مبهرة حقاً. صارت المدن تتنافس للحصول على مبنى زهاوي، كما هي حال بعض منافسيها من المعماريين النجوم من أمثال فرانك غيهري وجان نوفيل، ولو أنها بالحقيقة أكثر ابتكاراً من معظمهم وأشد رسوخاً في الفكر التشكيلي الحديث والمعاصر وأوضح انتماء إلى ثقافة العصر الاستهلاكية المبهرجة التي لا تخجل من انتمائها. لكن زها لم تتمكن من اقتحام قلعتي التقليد والمحافظة اللتين انتمت إليهما؛ بريطانيا والعالم العربي، إلا بعد عام 2006 عندما أصبحت سمعتها أقوى من أن تقاوم، وعندما تأكد لرعاة الثقافة والعمران الإنكليز والعرب أنهم لا يملكون نموذجاً من عمارة المرأة التي تتربع على عرش العمارة العالمية والتي ولدت في العراق وتعيش في لندن. ولكن عندما حازت لندن أخيراً على مبنى زهاوي، "أكاديمية إيڤيلين غرايس" في حي بريكستون التاريخي في قلب المدينة (بُني بين 2006 و2010) ، حصلت على واحد من أكثر مباني زها التزاماً اجتماعياً وبراعة في التصميم الفراغي الذي يستخدم غلاف المبنى نفسه بحركات انسيابية مرهفة لكي يشكل فراغات متمايزة وظيفياً وتشكيلياً بدون حدود مادية واضحة. أما مبناها الأهم في المدينة التي تبنتها وأحبتها فهو "المركز الأولمبي المائي" الذي صممته عام 2004 - 2005، بعد حصولها على جائزة "بريتزكر" (Prtizker)، نوبل العمارة عام 2004، وبُني عندما تأهلت لندن لضيافة أولمبياد عام 2012. هذه القوقعة الإسمنتية الضخمة والمتموجة (التي أضيف إليها فيما بعد جناحان جامدان على طرفيها) حوت كل مسابح التدريب والمسابقات اللازمة للمنافسات الأولمبية، وشكلت انعكاساً للخاصية الأساسية للماء الديناميكي، التموج، واستجابة تصميمية لنهر التايمز القريب الذي يتلوى منساباً عبر لندن من غربها إلى شرقها.


العالم العربي، أن تأتي متأخرًا


أما في العالم العربي الذي استفاق متأخراً على شهرة زها حديد، فقد ابتدأت الطلبات تتوالى عليها منذ 2006، وإن كان ما نفذ منها قليل نسبياً. أول ما نفذ هو مبنى مركز عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت (2006 - 2014) الذي حمل من بصمات أسلوبها الصرامة والجدة الهندسية وتحدي الجاذبية، لكنه لم يضف شيئاً مهماً إلى ابتكاراتها الخلاقة والخيالية. تبع ذلك مشاريع عديدة ضخمة وباذخة لم يُنفذ منها شيء بعد، وربما لن ينفذ معظمها لكلفته وشططه ولقصر نفس ممولي العمارة العرب الذين يريدون السمعة أكثر من المثابرة والإنجاز. تحوي اللائحة غير المكتملة لمشاريع زها العربية أوبرا دبي، والأبراج الملتوية في دبي، ومركز الفنون المسرحية والتمثيلية في أبوظبي، ومبنى مجلس الشعب السوري في دمشق، ومدينة القاهرة للعروض وأبراج الصخر في القاهرة أيضاً اللذين يفضل مموليهما كتابة الاسمين الأجنبيين بالعربية "إكسبو سيتي القاهرة" و"ستون تاورز"، والمسرح الكبير في الرباط، ودار الملك عبد الله للثقافة والفنون في عمّان، ومحطة مترو الرياض. ومبنى المصرف المركزي العراقي قيد الإنشاء في بغداد الذي يعبر عن عودة البنت العبقرية إلى مدينتها بعد سنين طوال من الارتحال.

أما المشروع العربي الثاني الذي نفذ لزها حديد فهو جسر الشيخ زايد في أبوظبي (2007 -2010) الذي تشبه دعامتاه المتموجتان على طوله، موج البحر الذي يعبره أو انسيابية الخط العربي الذي لا بدّ أن زها كانت ترمز إليه لا شعورياً، بما أنها تركز في وصفها على موج البحر ولا تشير إلى الخط أبداً.
زها حديد 


زها، مصممة المساجد


ناحية مهمة من نواحي عمارة زها حديد لم يُلتفت إليها فيما كتب عنها بما فيه الكفاية، مع أنها ربما كانت واحدة من أكثر اتجاهاتها ثورية، ألا وهي تصميمها المساجد. هناك على الأقل ثلاثة مساجد أو مراكز إسلامية من تصميمها، واحد لستراسبورغ بفرنسا (2000)، وواحد للكويت (2009)، وواحد لتيرانا في ألبانيا (2011)، يبدو أنها جميعها ستبقى على الورق، أو شاشات الكومبيوتر، لأسباب متعددة، ولكن وراءها جميعها برأيي، طغيان الجماد الفكري على نظرة المسلمين لمبانيهم التعبدية. بدأت زها بمقاربة مشكلة تصميم مساجد معاصرة في مسابقة مسجد ستراسبورغ، التي انتهت بأن أُعطيت للمعماري الإيطالي ما بعد - الحداثي باولو بورتيغيسي بتصميم باهت يكرر ما حققه بشكل أكثر نجاحاً في المركز الإسلامي بروما قبل عقدين من الزمن. تصميم زها ثوري بكل ما في الكلمة من معنى، ولكنه رقيق وحساس ومبتكر وجميل جداً. استخدمت في تشكيل غطائه الانسيابي الذي يتماوج فوق فراغات المسجد والوظائف الأخرى المرتبطة به، أشكال تموجات هندسة كسورية (fractal) توحي بتموجات الصوت الإنساني، صوت الأذان، في مقاربة بديعة لما يميّز المساجد عن غيرها من دور العبادة. أما مسجد الكويت، الذي كان مقرراً إقامته كجزء من المرحلة الثالثة من مشروع تجاري هائل، فهو يطرح مقاربة مختلفة وإن كانت كسابقتها في ستراسبورغ، تعتمد الانسيابية التموجية أساساً لتشكيل الفراغ. لكن زها هنا استخدمت عقدة مثلثية المسقط تستدير حول نفسها لكي ترسم حدود باحتين صغيرتين، وينطلق طرفاها شاقولياً عالياً في السماء متقاربين ومتحابين كسبّابتي شهادة أو كمشروع مئذنة رهيفة القد. إلا أن حرّاس التراث والتقليد لم يعجبهم هذا الخروج الفني المبدع عن المألوف والمعمول به وشطبوا هذه المشاريع كلها، وإن كانت زها بتصاميمها تلك قد اختطت خطاً جديداً في تصميم المساجد بدأت آثاره تظهر في تصميمات لمعماريين أصغر سناً بدأ بعضها يرى النور مؤخراً.

عندما بدأ خبر وفاة زها حديد بالانتشار على الإنترنت وعبر شبكات التواصل الاجتماعي، بعثت إلي مجموعة من طالباتي السابقات اللواتي يشغلن مناصب متقدمة في شركات معمارية أو معاهد أكاديمية كلمات أسى وحزن عليها. لكن واحدة منهن أرسلت : "لا زها بعد اليوم… لا زها" وعندما أجبتها بأن ذكراها لن تموت بما حققته في مهنة العمارة الصعبة والذكورية أجابت، "معك حق، أنت دائماً تُحضر الإيجابي من الأمور". طبعاً حزنّا كلنا على وفاة زها حديد في عزّ تألقها وإبداعها وهي التي كانت أمامها سنوات طوال من الإنتاج الخلاق. لكن أثرها في العمارة باقٍ من خلال المباني العديدة والعظيمة التي صممتها ونفذتها ومن خلال المعماريين الذين أثرت فيهم ودمغت اتجاههم المهني بمنهجها التصميمي الرائد وبآرائها البتارة والحدية. أما أثرها الأهم من وجهة نظري، فهي أنها كامرأة عربية وعراقية غزت عالماً مهنياً نظر عادةً إلى بنات جنسها على أنهن رسامات أو مصممات ديكور على الأكثر، أو حتى كجزء من الديكور نفسه أحياناً. اقتحمته وتحدته وروضته وسادت فيه بفكرها وتصميمها وموهبتها الخلاقة وغيرته بما لا رجعة فيه، بحيث إن كل معمارية بعدها ستكون مدينة لها بتعبيد طريق كانت ستكون أكثر إجحافاً بحق المعماريات كافة، وأكثر ضرراً بمهنة العمارة نفسها، هذه المهنة التي أعادت زها تعريفها تشكيلياً وفراغياً واجتماعياً بقوة شخصيتها وعنادها وروعة إبهار تصاميمها.

أستاذ الآغا خان للعمارة الإسلامية
M.I.T. معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا
المساهمون