معرض فني في نيويورك يحيي ذكرى ”سورية الصغرى“

19 يوليو 2016
رجال سورية في مقهى في نيويورك(الأرشيف القومي الأميركي)
+ الخط -

"سورية الصغرى" هو الاسم الذي كان يطلق على المنطقة العربية التي استقرت بها واحدة من موجات الهجرة العربية الأولى القادمة إلى الولايات المتحدة والتي استقرت في مدينة نيويورك، قبل حوالي مائة وأربعين عاماً. جاءت تلك الموجة من مناطق بلاد الشام آنذاك بين الأعوام 1880 وعام 1924، وتقدر أعدادهم بحوالى 95 ألف شخص، انتقلوا لاحقاً وأسسوا كيانات في مناطق مختلفة من الولايات المتحدة، كنيوجيرسي وميشيغن وبوسطن. تبقى الأعداد الدقيقة غير معروفة، حيث يشار إليهم في سجل المهاجرين إلى الولايات المتحدة بعدة تسميات منها "عثمانيون" و"سوريون" و"آسيويون" وذلك لأسباب تاريخية. كما أسسوا أكثر من 300 محل تجاري ومقهى ومطعم في تلك المنطقة الواقعة بمانهاتن السفلى، ناهيك عن الصحف والمجلات. يوثّق لتك الحقبة معرض فنّي في نيويورك تحت عنوان "سورية الصغرى، نيويورك: حياة وتركة جالية مهاجرة" ويستمر حتى أواخر شهر أيلول/سبتمبر ويعرض في متحف تابع لهيئة السجلات وخدمات المعلومات في مدينة نيويورك. ويقام المعرض بالتعاون مع المتحف العربي القومي الأميركي ومقره ديربورن، ميشيغن.
يعتمد المعرض على صور معبرة ومواد أرشيفية تضع زائر المعرض في أجواء تلك الحقبة وحياة المهاجرين آنذاك. في إحدى الصور تقف امرأتان في الشارع لتبادل أطراف الحديث. بينما يجلس، في صوة أخرى، رجال في مقهى يدخنون الأراجيل ببدلهم الأنيقة. وفي صورة ثالثة يدور بائع العصير بين المارة بلباسه الشامي التقليدي، وفي رابعة يقف رجل وامرأة في محل للحلوى وتبدو صينية البقلاوة، وكأنها خرجت للتو من الفرن. إنها صور أرشيفية لحياة يومية لعرب نيويورك الذي عاشوا في تلك المنطقة التي لم يبق أي أثر منها، غير كنيسة القديس جورج وبنايتان واحدة تستخدم كمركز يقدم خدمات اجتماعية لأهل الحي والثانية عمارة سكنية بخمسة طوابق. والعمارتان مهددتان بالبيع والهدم رغم محاولات لجنة محلية للحفاظ على تاريخ وإرث شارع واشنطن في مانهاتن السفلى وتسجيلهما كجزء من الموروث الثقافي لنيويورك، حيث امتد جزء من الحي العربي في نيويورك القريب من مركز التجارة العالمي. تمكنت تلك اللجنة من الضغط على البلدية ووضع لافتة تشير إلى بعض معالمه كما بعض الألواح في حديقة مجاورة تتخللها معلومات عنه.
ولم يقتصر دور الجالية العربية في "سورية الصغرى" على تأسيس المحال والمصالح التجارية فحسب، بل سرعان ما أسس أعضاؤها صحفاً عديدة أولها صحيفة "كوكب أميركا". وتشير وثائق عدة بالمعرض إلى أن الجالية العربية في ”سورية الصغرى“ طبعت ما بين الأعوام 1880 و 1930 ما يقارب من خمسين صحيفة ومجلة من بينها مجلة ”العالم الجديد“ لصاحبتها عفيفة كرم و“الهدى“ اليومية للأخوين نعوم وسلوم مكرزل من جبل لبنان. وكان نعوم مكرزل شاعرا وناشرا وقام بمساعدة أخيه سلوم بتسهيل طباعة العربية باستخدام تقنية ”لاينوتايب“ والتي اخترعت في الولايات المتحدة 1885، وأحدثت تلك الآلة ثورة في عالم نشر الصحف وساعدت ورشات صغيرة على إنتاج وطباعة كميات كبيرة من المطبوعات في وقت سريع نسبيا. وبحسب المعرض فإن صحيفة ”الهدى“ اليومية كانت الأكثر طباعة وانتشارا آنذاك.

كما كان الحي مزارا ومحل إقامة لعدة أدباء وفنانين هاجروا أو عاشوا في أميركا لفترة بمن فيهم أعضاء ”الرابطة القلمية“ كجبران خليل جبران وأمين الريحاني وغيرهم. هذا وعرفت المنطقة محلات لصناعة النسيج التي انتقلت بعدها لمناطق أخرى. ولعل أشهرها مصانع الحرير لعائلة جورج شاهين في نيويورك ونيوجيرسي والتي طورها الحفيد ألفريد شاهين في جزيرة هاواي الأميركية ليؤسس ويساعد في نشر قمصان هاواي. وقد كرمته ولاية هاواي الأميركية بعدة طرق من بينها اختيار خمسة تصميمات وإصدارها كطوابع بريد عام 2012 كانت أربعة منها لألفريد شاهين المعروفة باسم ”آلوها تي شيرت“ أي قمصان آلوها، وهي عبارة عن تحية باللغة المحلية للجزيرة.

هدمت أغلب بنايات الحي في أربعينيات القرن الماضي، لتشييد أحد الأنفاق التي تربط منطقتي مانهاتن وبروكلين كما لتوسيع المنطقة المجاورة لمركز التجارة العالمي في الستينيات من القرن الماضي، حيث أن هذه المنطقة اليوم معقل للشركات الاقتصادية وشركات التأمين والبنوك الكبرى في نيويورك. وانتقلت الجاليات العربية التي عاشت هناك إلى حي بروكلين، وتحديدا جادة آتلانتيك، التي ما زالت تقطنها العديد من العائلات العربية، كما إلى مناطق عديدة في الولايات المتحدة.

يهدف المعرض إلى وضع قصة العرب الأميركان في سياقها الأوسع، أي سياق موجات الهجرات المختلفة إلى الولايات المتحدة من جميع أنحاء العالم وما قدمه هؤلاء لمحيطهم وما استفادوه منه على الرغم من المصاعب الجمة التي واجهتهم في تلك الفترة وتواجه أجيال عديدة حتى اليوم. يحاول المعرض وبمساعدة القائمين عليه وخاصة المتحف العربي القومي الأميركي، توثيق هذه القصص بمجهودات فردية وتوثيق حكايات واحدة من موجات الهجرة العربية الأولى إلى الساحل الشرقي في الولايات المتحدة. ولحقت هذه الهجرة موجات أخرى اختلفت بنوعيتها وظروفها وما زالت تنتظر أن يوثق لها كذلك. لقد ساهم العرب الأمريكان منذ أجيال في بناء الاقتصاد والثقافة الأميركية وأغنوا المجتمعات التي قدموا إليها، لكن هذه الحقائق تظل بعيدة أو غائبة عن أذهان معظم الأميركيين، كما تغيب غالباً في بلدانهم الأصلية.

دلالات
المساهمون