مفاجأة كورتاثار في مئوية ولادته

28 مارس 2014
+ الخط -


عاد الكاتب الأَرجنتيني الشهير خوليو كورتاثار إلى الظهور من جديد في العاصمة الفرنسية باريس، إثر نشر مجموعة قصصية جديدة له تحمل عنوان "صفحات لا مُنْتَظَرَة"، وذلك ضمن المنشورات الجديدة لكبرى دور النشر الفرنسية "غاليمار". حدث أدبي رفيع، بلا شك، سيبتهج له القراءُ الشَّغُوفون بالقصة القصيرة أولاً. وبالطبع المهتمون بالسرد الغرائبي الذي تَميَّزَ به كورتاثار، وكان من أهم أسمائه عالميا.

وكان كورتاثار قد غادرنا في شباط/ فبراير 1984، عقب معاناة قاسية مع داء السرطان، عن سنٍّ بلَغَتْ التاسعة والستين. ولا نزال نَذْكُر الاهتمام الإعلامي الواسع الذي أحيط به خبرُ وفاته في الجهات الأربع للعَالَم، وبالأَخص في فرنسا حيث عاش منذ 1951، وفي البلدان الناطقة بالإسبانية لكونه كتَبَ أعماله بالإسبانية، وتبوأ مكانة كونية وازنة ككاتب كبير طَبَعَ الأَدب الإنساني، الأميركي الجنوبي منه خصوصاً، بجملته السردية وذكاء أسلوبه وثراء متَخيَّله الفانتاستيكي. ولم تُنْسَ مبادرة الصحيفة الإسبانية واسعة الانتشار "الباييس" آنذاك حين خصصت له ملحقاً من إحدى عشرة صفحة تحية لذاكرته وإبداعه، ولقيمة إسهامه في إثراء الأدب واللغة الإسبانيين.

لم تكن لِتُذكَر رموزُ الكتابة الروائية والقصصية في أميركا اللاَّتينية من دون أن يُذْكَرَ اسْمُه، إلى جانب بُورْخيسْ وأدولْفُو بيو كاثاريس وإِرْنيسْتُو ساباتو الأَرجنْتِينيِين، والمكسيكي خْوَانْ رُولْفُو، والكُولُمبيَّيْن غابْرييل غارسيا ماركيز وألڤَارُو مُوتيسْ، والبِّيرُوڤي بارغاس يُوسَا، والغواتيمالي ميغيلْ أنخيل أستورياس، والأورغوايانيَين إِدْوَارْدُو غَالْيَانُو وخوان أُونيتِّي، وأغوسطو رُوَا باسطوس (الباراغْواي)، والكُوبي أليخُو كَارْبَّنتْيِي، لكي لا نَذْكُرَ إِلاَّ الكبار.

لِهذه الـ "صفحات اللاَّمُنْتَظَرة"، الصادرة في ذكْرَى رحيل كورتاثار، قصتُها القصيرة هِيَ نَفْسُهَا. كما أن لها أصولا عدة، بل أوضاع اعتبارية عدة. فهناك مخطوطات أو وثائق كان قد احتفظ بها المؤلِّف، وظلت لدى أرملته أُورُورَا برنارديثْ في خزانةٍ وُصِفَتْ بالعجائبية (استعملت مترجمة الكِتَاب إِلى الفرنسية سيلْڤيا بّْرُوتَانْ عبارة الخزانة ـ المعجزة) نظراً لكونها خزانةً ممتلئةً باللاَّمُتَوقَّع من النصوص والمفاجآت. وبعض هذه الوثائق أَرَّخَها كورتاثار بخَطِّ يدِهِ، وبعضها الآخر عثر عليه بعض الباحثين منشورة في مجلات وصحف متفرقة، هنا وهناك، فقدموا نسخاً منها إِلى أُورُورا أو بعض مساعديها، عقب وفاة الكاتب. وكان ما عُثِر عليه في الخزانة، في معظمه، أكثر اكتمالاً وأحياناً كان قريباً من صيغةِ الكتابةِ الأولية (Premier jet).

والواقع أن كورتاثار كان يَنْشُر، في الكثير من الحالات، نصوصاً في مجلات وصحف متباينة القيمة، وفي بلدان مختلفة ومتعددة. ويبدو أنه لم يكن يمانع في التجاوب مع نداءاتٍ صحافية أو النزول عند كُلِّ الرغبات التي كان يرى فيها تكريماً له واهتماماً بأَدبه. ولا شك أَن ذلك عَقَّد، إِلى حدٍّ ما، من مهام جمع تراثه واستكمال بناء ذاكرته. ولحسن الحظ، فَإِن بعض هذه النصوص كان قد بعثَها المؤلف إِلى ناشره الأَرجنتيني باكو بوروا وصديقه الدائم إِدْوَارْدُو جونكيير، أو أَيضاً إِلى بُّولْ بلاكبورن أحد مترجميه الثقات إِلى الإنجليزية. فَظَلَّ هؤلاء محتفظين ببعض هذه المخطوطات والنسخ التي ضاعت أصولها، ولم تعثر زوجته لديها على نظير أو أَصْل لها، لا في خزانة الإِعجاز المذكورة ولا في غيرها!

والجميل أن كل هذه اللُّقَى المدهشة صدرت حديثاً بالإسبانية في بْوينَسْ آيرس، قبل أَنْ تصدر بالفرنسية، وذلك بنَفْس العنوان الذي احتفظتْ به دار "غاليمار". وفي الحالتَيْن واللغتَيْن معاً، جَرى النَّشْر تحت العين الحريصة لأرملة كورتاثار وبالعِناية الفاحصة لكارلس أَلْڤَاريثْ غاريغا كمختص في أدب الراحل.

صفحات غير متوقّعة، وصفتها المترجمة بِجذُور صغيرة متجذرة ولصيقة بالتربة تضمن لعمل أدبي كبير أن يتواصل ويزداد تشعباً وانتشاراً، وأن يُسْتَعَاد بقوة. وهي نصوص تستعيد، في الحقيقة، صوت كورتاثار الذي افتقدناه. كورتاثار الغرائبي، الساخر، الذي يدخل إلى أحلامه فيعود محمَّلاً بالثيمات والمحكيات الجديدة الخارقة. كورتاثار المقتصد في لغته، وفي جملته، والعازف عن فخامة الأسلوب الباروكي، والمُنَقِّب عن الشخصيات في حياته اليومية وفي ذكرياته وسيرته الذاتية. كورتاثار الفوضوي في كتابته، الذي لم يكن منهجياً ولم ينتظم في طقوسٍ معلومة على مستوى الكتابة أو النشر، والهارب من امتيازات نَجَاحِهِ وشهرته، والذي بدَّدَ الكثير من وقْتِهِ (رغم نُبْل الرسالة والمقاصد) في الالتزام بقضية الثورة السَّانْدينية ومواكبة نضالات شَعْبِ نيكاراغْوَا. التزام كان يمكن أن يتحمله الكثيرون غيره، خصوصاً أولئك الذين لم يكن ممكناً أن نعثر بينهم على شخص وَاحِدٍ كان ليستطيع أن ينوب عن كورتاثار في كتابة قصة واحدة من قصصه!

لقد كان كورتاثار كاتباً موهوباً تَسَّاقَطُ القصص في أَعماقه، في رؤيا المنام أو في رؤية اليقظات، فيهرع إِلى الآلة الكاتبة ليكتبها. وكان يحكي، يحكي فقط ما يخطر في الدواخل وفي البال دون أن يحفل كثيراً بالنعوت والأَوصاف. كان الاقتصاد هويته النّصية بامتياز، والحكاية أُفُقَه ورهانَهُ.

وكان يحب العَزْف على آلة الترومْبيت، ويحب التانْغُو والجَّازْ. كانت الموسيقا ضميراً آخر لَهُ، إِلى جانب ضميره الأدبي، بل إِلى جانب ضميره الأَخلاقي. وكان يُحبُّ باريس، وكانت تبادله الحب وتُغَذّي كتابته بالوجوه والشخوص والمفارقات السوريالية والعجائبية، وذلك بما فيها من عوالم غير مرتَّبَة، وغير منتظمة، وصفحاتٍ لا منتظرة، كان يهيِّئُها له الخَلْطُ واللاَّمنطق، فضلاً عن النَّبْش في ذاكرته الأَرجنتينية النائية جغرافياً وزمنياً، والحفر في بعض من مخزونه الأوتوبيوغرافي المُقْفَل، هو الذي رفَضَ دائماً أن يكتب سيرته الذاتية أو يُحرِّر مذكراته.
ولا أزال أذكُرُ حواره مع مجلة "باريس ريڤيو" الأَميركية، أشهراً قليلة قبل وفاته، مُشَدِّداً على أنه لم يكن يحب السيَر الذاتية، وأَنه ـ على العكس ـ كان شغوفاً بسيَر الآخرين، بالسير الغَيْرية التي يكتبها آخرون عن آخرين. وبَرَّر ذلك بأنه صادق إلى درجة أنه لا يريد، مثل آخرين، أن يكتب عن نفسه "سيرة ذاتية متَخيَّلَة". وإِذا كان عليه أن يكتبها، فستكون حقيقية تماماً. ومعناه أنه سيصبح مؤرخاً لِنَفْسِهِ، وهو كاتب حقيقي، كانت مهنة مؤرخ ستُضْجرُه بالتأكيد.

في أُقصوصة "مخطوطة وُجدَتْ قُرب يَدٍ ما"، ضمن هذا الكتاب، يصل "البَطَل" إلى اسطنبول. وفي لحظة مناجاة، في غرفته بالفندق، يقول: "ليست هذه هي المرة الأولى التي أَنام فيها على إِيقاع كتابة هذه الذكريات، لكنني أحرص دائماً على أن أمزق هذه الصفحات بمجرد الوصول إلى بلد المقصد. أُحبُّ أن أقرأ وأعيد قراءةَ حكايتي العجيبة، حتَّى وإِنْ كنتُ أُفَضّل لاحقاً محو آثاري". ذلك ما قَالَتْهُ الذاتُ المتكلِّمة في القصة. أما كورتاثار نَفْسُه، المؤلف، فلم يستطع ـ عكس شخصيته ـ أن يمحو آثاره الكثيرة المتفرقة. ظلت مخطوطاته ونصوصه حاضرة، هُنَا قرب يدِهِ الغائبة. كأنها يَدُ ساحِرٍ أَرجنتيني اختفت قليلاً لتعاود الظهور من جديد... أو كأن الكاتب الكبير دخل الغرفة المجاورة لِغُرَفِ قرائه، وسرعان ما سيعود. ولذلك، فَهُم ينتظرونه دائماً. خزانَتُه معجزة ومِثْلُه لا يُسْتَنْفَدُ.

دلالات
المساهمون