روح تودوروف

09 فبراير 2017
تودوروف، تصوير: ميغيل ريوبا (2008)
+ الخط -

"الكلام على الكتب سيكون مهنتي"، هكذا كتب تزيفيتان تودوروف (1939 – 2017) الذي رحل عن عالمنا أوّل أمس، في عمله "الأدب في خطر" (2007). كان يتحدّث، بصيغة أوتوبيوغرافية، عن قرارٍ اتخذه في بداية العشرينيات من عمره، حين كان لا يزال يعيش في بلده الأصلي بلغاريا.

لن يحيد عن قراره هذا، غير أنه بمرور العقود، ومع انتقاله في 1963 إلى فرنسا، سيوسّع دوائره ليصبح "كلامُ"ـه مهتماً بما هو أكثر من الكتب؛ حيث سيتناول سِير الفنانين والسياسيين، والسرديات التاريخية، والعلاقات الدولية وغيرها.

هذا التشعّب يمكن تفسيره بعبارة له يقول فيها "الأدب لا ينشأ في الفراغ بل في حضن مجموعة من الخطابات الحية"، وكأنه بعد سنوات من التخصّص الأكاديمي التي غلب عليها الجانب النظري، قرّر "الارتماء في حضن" هذه الخطابات الحيّة المتعدّدة، وفي النهاية لم يكن الأمر سوى "عملية توسيع لحقل الأدب".

تحرّر تودوروف من الاختصاص سبقته عمليات تحرّر أخرى. فمساره يوحي بداية بتخلّص/ تملّص من الهوية الوطنية، البلغارية في مرحلة أولى ثم الفرنسية في ثانية، وهو الوجه الآخر من النزعة الإنسانوية التي حكمت أعماله.

قصة وصول تودوروف إلى فرنسا هي الأخرى نابعة من رغبة في التحرّر، وقد روى ذلك في أكثر من عمل من أعماله، فهو لا ينكر بأنه "هرب" من بلاده التي أصبحت فيها الدراسات الأدبية محكومة بقيود أيديولوجية ثقيلة، وكان الطالب العشريني وقتها قد عثر على حلّ لمواصلة دراسة الأدب دون الاحتكاك بغضب السلطة، من خلال دراسته من زاوية اللسانيات.

الانتقال من بلغاريا إلى فرنسا كان أشبه بالانتقال من قمقم إلى متاهة، فقد طوّحت به شهوات المعرفة المتعدّدة في بلد تحوّلت فيه دراسة الأدب إلى صناعة منذ قرابة قرنين. كان من المفترض أن تدوم بعثته إلى فرنسا سنة واحدة، وتصوّر تودوروف أنه لن يتجاوزها، لذا فلا بديل له عن طرْق جميع الأبواب المعرفية الممكنة، ليوزّع نفسه بين أكثر من مسار. قبل أن يضعه في مداره أستاذ شاب كان يحاول أن يؤسّس لعلم للسرديات؛ جيرار جينيت (1930).

نقطة الالتقاء تلك، هي نفسها نقطة انطلاق تودوروف، فمع جينت سيفهم بأنه وبحكم ثقافته الشرق-أوروبية يمكن أن يكون حلقة وصل بين أكبر تيّارين في اللغويات؛ بحيث يصبّ الشرق والغرب في مجرى نهر واحد.

كان أوّل إصدار يحمل إمضاء تزيفيتان تودوروف كتاب "نظرية الأدب.. نصوص الشكلانيين الروس" (1965) وفيه ترجم النصوص الأساسية في الدراسات الأدبية واللسانية من اللغة الروسية مع تقديمها وتنسيقها بحيث بدت عملاً تأليفياً رغم تعدّد الأصوات فيه من فلاديمير بروب إلى رومان جاكبسن.

بعد سنتين، أصدر تودوروف عملاً جديداً لافتاً بعنوان "الأدب والدلالة"، وفي 1969 نشر دراسة بعنوان "نحوُ الديكاميرون". أعمال مكّنته من التقدّم في الدرجات الأكاديمية، قبل أن يجعل منه مشروعاً مشتركاً مع جينيت أحد أبرز وجوه الساحة الأدبية حين أطلقا ثم أشرفا على مجلة "الشعرية" بداية من 1970 وهي السنة التي أصدر فيها كتاباً بعنوان "مدخل إلى الأدب العجائبي".

يمكن اعتبار عقد السبعينيات مرحلة التنظير في مشوار تودوروف، وفيها وضع أعمالاً لا تزال تحتفظ بأبعادها المرجعية إلى يومنا هذا، أبرزها "شعرية النثر" (1971) و"الشعرية" (1977) و"نظريات الرمز" (1977)، وهو عقد اختتمه بإنجاز "القاموس الموسوعي لعلوم اللغة" مع أوسفالد دوكرو، ويستنتج متابعُ بقيةَ مشوار تودوروف بأنه كان بذلك العمل يغلق قوساً من حياته، هو الذي أشار في كتاب "الشعرية" إلى "خطر فائض التنظير" لينقطع عنه ويبدأ في الخوض في الشؤون العامة.

لم يختر تودوروف أية بداية كانت للمرحلة الجديدة، فكتابه "غزو أميركا.. مسألة الآخر" (1982) يعود إلى لحظة انبلاج العصور الحديثة برؤية نقدية تعتمد على أدوات تخصّصاته الأكاديمية وتتجاوزها إلى عملية تفكير مرحة مع الوقائع والنصوص. ويسمّي 1492 عام اكتشاف الآخر وهو أيضاً سنة البدء في محوه، مشيراً إلى أن كلمة "اكتشاف" ليست سوى تعبير عن مركزية أوروبية متغطرسة، فالقارة "المكتشفة" ليست جديدة بالنسبة إلى أهلها.

سنعثر على أميركا ثانيةً حاضرة في عمل مختلف تماماً لتودوروف بعنوان "اللانظام العالمي الجديد" (2003). تختلف زوايا الرؤية هنا وهناك، وكذلك المواضيع والأطروحات، غير أن تحليل الكاتب البلغاري الفرنسي للوضع الجيوسياسي العالمي، يُظهر بأن "اللانظام العالمي الجديد" ليس سوى نهاية خيط يبدأ في كتاب "غزو أميركا".

هذه الخيوط كان صاحب "نقد النقد" يعرف جيداً كيف يربط بها الأفكار والحوادث والاستشرافات، مصعّداً بقدرة عجيبة إشكاليات حادّة كما فعل في كتاب "روح الأنوار" (2006) حين بيّن بأن نفس الجوهر الذي يُنتج قيم الحرية والمساواة ويدفع التطوّر العلمي ويفتح المجال للفن والفكر، يصنع الاستبداد والبربرية.

معظم أعمال تودوروف عبارة عن كتيّبات تتراوح بين مئة ومئتي صفحة. قد يكون ذلك سبباً من أسباب سهولة تداول وترجمة أعماله. رغم ذلك لم يكن راضياً عن حال القراءة في العالم، وتفكّك المعارف وطغيان الأحادية بداية من طرق قراءة الأدب وصولاً إلى استراتيجيات تسيير العالم.

المساهمون