عرفت سفيتلانا أليكسييفيتش قبل أن أقرأ كُتبها. واحتجت إلى سنوات كي أقرأ باكورة أعمالها: "ليس للحرب وجهٌ أنثوي"، الصادرة عن دار ممدوح عدوان (2016) بترجمة السوري نزار عيون السود عن الروسية مباشرة، وذلك بعد 31 عاماً من صدور الكتاب بلغته الأصلية.
قبل هذا طبعاً، ثار لغط غير قليل حول الكاتبة في الصحافة العالمية، بمناسبة حصولها على نوبل الآداب (2015). لغطٌ ظلمها لأنه اعتبرها كاتبة تحقيقات استقصائية، وليست روائية يمكن إدراج مؤلّفاتها في عداد الأدب الرفيع. أما صحافتنا فنقلت أصداء تلك الصحافة ـ ربما عن جهل، وربما عن تحيّزات قبْلية من دون أن تقرأ إنتاجها ذاته.
بداية، لا أُخفي حماسي لشخصيتها الخجولة ولِما تكتب معاً. فحتى ما قرأته لها من مقاطع وصفحات ـ حين فازت بنوبل ـ يجعلها جديرة بالجائزة عن استحقاق.
أما الآن، فها أنذا أُنهي كتابها هذا، وأعود إليه المرة تلو الأخرى.
رواية أصوات متعدّدة لنساء شاركن بتلك الحرب الأكثر بشاعة في التاريخ (قرابة مليون امرأة سوفييتية حاربن دفاعاً عن بلادهنّ أمام الوحش النازي). وواظبت المؤلّفة على مقابلتهن لسنوات، قبل أن تصنع مما سمعت كتاباً أو قل رواية عن الحرب، من دون أن تحرم قارئها من الإمتاع الأدبي وهو شرطُ وجوبٍ في الأدب.
ولأنهن نساء يُسمعننا شهاداتهنّ من لُبّ التجربة، بعد مرور أربعين عاماً على انقضائها، من دون أن يأبهن بمعنى البطولة، فالكتاب حقيقةً عمل أدبي فريد من نوعه.
عمل استحضر ما غاب من آلاف التفاصيل لا تراها غير عين الأنثى. تلك التفاصيل التي نسيها بل بالأحرى لا يحسّها الكتّاب الرجال ممن كتبوا تجربة الحرب أدباً أو غير أدب.
لم أقرأ من قبل رواية عن الحرب بهذه الكثافة والنفاذ. كما لم أقرأ كتاباً يدين النازيين، مثلما فعل هذا الكتاب، بعيداً عن أي نفَس أيديولوجي أو عقائدي. فشهادات مئات الفتيات المجندات تُقرأ ويجب أن تقرأ كشهادات لبشر عاديين ـ هم ملح هذه الأرض ـ لا لمثقفين يحملون وجهات نظر مُسبقة أو ما شابه.
والعجيب الغريب أن تُهاجم الكاتبة ليس من قِبل رقابيين روس فقط، وإنما من كتّاب أيضاً! بينما هي تحديداً من أدى الخدمة الجلّى للروس وللسوفييت ـ من غير قصد ـ عبر سرد الحقيقة الغائبة بآلاف شواظّها الساخنة كما خبرتها تلكم الفتيات على أرض الميدان.
حقائق مدهشة ومثيرة لم نطالعها في تجارب كتابية تناولت ثيمة الحرب من قبل. وبعض الذين دمغتهم الحروب بقارّها الثقيل يعرفونها جيداً.
مثل التغيّر البيولوجي لجسم الأنثى، وانقطاع دورتها الشهرية، وعدم إحساسها بأي رغبات أنثوية، ناهيك عن تيبّس جسدها، تحت ثقل الضغوط وأقاصي الرعب والإنهاك.
فهذا شيء لمسناه في الحروب الثلاث الأخيرة على فلسطين. الحرب تغيّر بيولوجيا المرأة ـ ودعك الآن من احتراقها النفسي بمختلف تبدّياته، ودفعْها الثمن مضاعفاً قياساً برفيقها الرجل. ومثل تلك القصص شديدة النفاذ إنسانياً بما تحتويه بين طيّاتها من مفارقات كالتوحش والتسامي في أشدّ اللحظات هولاً وفظاعة.
ذلك أن "حربهنّ لها ألوانها الخاصة وأضواؤها الخاصة ومساحات مشاعرها المميزة. حربٌ تخلو من الأبطال والمآثر القتالية. وفيها لا يشعر الناس وحدهم بالألم والمعاناة، بل كذلك الأرض والطيور والأشجار. إنهم يتألمون من دون كلمات وهذا أشدّ وأرهب".
الكتاب يقوم على ثيمة التذكّر. وكل كتابة عمادُها الذاكرةُ يجب أن تضع نصب عينيها أن الذكريات "ليست إعادة سردٍ عاطفية أو غير عاطفية للواقع المحجوب، بل ولادة جديدة للماضي". فـ"بادئ ذي بدء، الذكريات إبداع". حيث في ذكرياتهم يبدعُ الناسُ، و"يكتبون" حياتهم. وقد يُكملونها أو "يعيدون صياغتها" بتلك الحرارة المرتفعة ووهج الألم الذي يقضي على أي زيف.
ولا ننسى أن كتابة الذاكرة الجماعية هي مونتاج وكولاّج بالأساس. ومثلما تقوم على تعدّد وتداخل الأصوات، فهي تقوم على الحذف والاصطفاء في جانب كبير منها.
تقول سيفتلانا عن بعض النساء اللائي التقتهن: "إنهنّ محدّثات مذهلات وثمة في حياتهنّ صفحات يمكنها منافسة أفضل صفحات الأدب الكلاسيكي".
وبما أن الرواية مكرسة لهنّ، فقد نجحت في عملية "أنسنة" للحرب. وهذا تحديداً ما عجزت عنه كتابات معظم نظرائها الرجال. فالرجال يتذكرون المآثر الكبرى، ولا يلتفتون إلى التفاصيل الصغيرة. إنهم يكتفون بالمانشيتات عموماً من دون الخوض في والتنقيب عن فسيفساء الحرب. والحرب أدبياً تكمن في فسيفسائها لا في خطوطها العامة.
"اقتنعتُ بأنّ النساء البسيطات، الممرّضات، الطبّاخات، الغسّالات، يتصرّفن بصدق وشفافية، وكأنهنّ يستخرجن الكلمات من ذواتهنّ، من أنفسهنّ، وليس من الصحف والكتب المقروءة". والحق أن المرء ليحتار في انتخاب مقاطع دالّة من العمل، فالعمل بالمجمل ثري بتلك التفاصيل ويصلُح جميعُه للاستشهاد.
"ليس للحرب وجه أنثوي" هو إذاً كتاب توثيق لحقيقة تلك السنوات الأربع الأكثر رهبة (1941 ـ 1945)، وقد كُتب برواء أدبي. وأظن أن هذا غاية المرتجى، في كتاب مكرّس للحقيقة وللواقع وللتاريخ.
هل نقول أخيراً إنها رواية الكورس النسائي وقد خطا من خلفية المسرح ليقف في الواجهة؟ رواية اشتغلت على الحقيقي والحميم نابذة كل ما هو مصطنع وكاذب؟ رواية أفقية لا يوجد فيها "ميتاسرد"، كون مرجعيتها الأولى والأخيرة هي الواقع؟
أجل. وكذلك رواية تقول لنا إن الحروب ـ وهي صناعة ذكورية على مدار القرون ـ مضادة لإنسانيّتنا. وجدير بالبشر أن يقدّروا نعمة الحياة، فلا يبذّرونها في حرب.
وتلك هي الرسالة!