العمارة في آفاق رقمية

30 أكتوبر 2014
متحف غوغنهايم، بيلباو، إسبانيا (1997)، تصميم فرانك غيري
+ الخط -

شهدت العقود الثلاثة الأخيرة تغييراً دراماتيكياً طال كافة مناحي الحياة من وسائل اتصال وإعلام، في مرحلة "الثورة الرقمية"، وقد رسم هذا التغيير صيغة جديدة لطبيعة علاقاتنا الاجتماعية بكامل تفاصيلها اليومية.

تجلّى تأثير هذا التطور في ممارسة العمارة أواخر الثمانينيات، وتبلوَر بالانتشار الواسع لبرامج التصميم بمساعدة الحاسب (Computer-Aided Design) والذي يُختصر بـ "كاد (CAD)"، ثم انتشار النمذجة ثلاثية الأبعاد (3D Modelling). قدّمت هذه التقنيات خدمة كبيرة للمعماريين والمشتغلين في كافة الاختصاصات الأخرى في قطاع البناء عبر تسريع عملية الرسم، وإمكانية عرض الأفكار المعمارية والإنشائية في مراحلها المختلفة.

وتطورت لاحقاً برامج التصميم أكثر وتعددت وسائطها وإمكانياتها، واندمجت تدريجياً في عملية التصميم المعماري نفسها. لقد تمكّنت الوسائط الرقمية من الانتقال من وسيلة للرسم والعرض إلى جزء لا يتجزأ من عملية التصميم المعماري، وكوّنت فهماً جديداً للإبداع لدى كثير من المعماريين، فلم تعد عملية التصميم المعماري مقتصرة على المحاكمة الشكلية والوظيفية فحسب، بل تعدّتها إلى محاكمة برامجية، فأصبح بإمكان المصمم اليوم، دمج آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا الحديثة من برامج ولغات برمجية ومعادلات رياضية لإنشاء منظومة رقمية قادرة على توليد أشكال معمارية باحتمالات غير منتهية وفق قوانين ونظم يتحكم بها المصمم نفسه.

من أبرز ثمرات هذا التطور، هو بدء انتشار الأشكال المعمارية المنحنية؛ ما يبشّر بثورة محتملة على العالم الإقليدي (نسبة إلى عالم الرياضيات اليوناني إقليدس) الذي ألزم العمارة في القرون الماضية بأشكال صندوقية وزوايا قائمة. ثورة قد تستبدل هذه الأشكال المستقيمة بأخرى منحنية من خلال محاكاة الطبيعة. حتى وإن رأى بعضهم أن لا جدوى من مثل هذا التغيير، فعلى الأقل، نستطيع القول إن التكنولوجيا الحديثة قد وسّعت هامش حرية المصمم إلى حدّ بات فيه قادراً على إقحام أشكال منحنية بالغة التعقيد من دون اكتراث بـ "استحالة التنفيذ".

ويُعتبر متحف غوغنهايم (Guggenheim Museum)، الذي صمّمه فرانك غيري (Frank Gehry)، في مدينة بيلباو الإسبانية عام 1997، مثالاً على ما يمكن أن تصل إليه الأشكال المعمارية في ظل هذه الثورة الرقمية.

ويعتبر المعماري برانكو كولاريفيج (Branko Kolarevic) عمل غيري هذا هارباً من المستقبل إلى عصرنا الحالي. ويذهب كولاريفيج في كتابه "العمارة في العصر الرقمي" أبعد من ذلك إذ يصف "منحوتة" غيري بأنها إعلان لحقبة معمارية جديدة، ويشبهها ببرج إيفل في باريس، باعتبار أنّ هذا المعلم كان تحدياً صارخاً للعمارة التقليدية في حينه، وقد احتاج الأمر إلى ما يقارب مئة عام كي يصبح استخدام الفولاذ لإنشاء مبانٍ شاهقة الارتفاع كبرج إيفل أمراً اعتيادياً.

وهكذا، فإن متحف غوغنهايم، بحسب كولاريفيج، يمثل بدوره تحدياً للأشكال التقليدية في عصرنا الحالي، واستخدام غير مسبوق لخطوط منحنية، قد تمرّ عدة عقود قبل أن يصبح استخدامها أمراً شائعاً.

أمام هذه التطور المتسارع، لا بد لنا من صرف جهد مضاعف لمواكبة روح العصر في ظل هذا التطور الاستثنائي. ويمكن لدمج هذه المفاهيم الجديدة في مناهج كليات ومدارس العمارة أن يساعد على إعداد جيل معماري عربي قادر على مجاراة التطورات المتسارعة.

ففي ظل الصراعات الدامية التي تشهدها منطقتنا، لا يسعنا إلا أن نتسلح بالتفاؤل، فلا بد من نهاية لهذا الدمار. نهاية تتلوها مرحلة "إعادة إعمار" بغضّ النظر عمّا قد يحمله هذا المفهوم من معانٍ سياسية ومنفعية خبيثة، فإننا بحاجة إلى أن يقود هذه المرحلة جيل معماري محلي، يحافظ على الموروث بشكل منسجم مع روح العصر.

دلالات
المساهمون