تبدو أعمال الكاتب الإنكليزي جون رونالد تولكين (1892 - 1973) مغرقةً في التخييل بحيث لا تمتّ بصلة إلى الواقع من خلال شخصيات غرائبية واختلاق عوالم تختلف معاييرها عن مرجعيات الواقع، غير أن معرضاً يقام منذ الثلاثاء الماضي في "مكتبة فرانسوا ميتران" في باريس يحاول أن يثبت العكس، فكل تلك النصوص المتخيلة لم تكن سوى إعادة كتابة لما عاشه تولكين في حياته الواقعية.
أولى النقاط التي يركّز عليها المعرض، الذي يتواصل حتى شباط فبراير من السنة المقبلة، هو "الخيال اللغوي" لصاحب رواية "الهوبيت"، حيث تجري الإشارة إلى تكوينه في اللغات القديمة، واشتغاله على فهم اللغة باعتبارها ليست فقط أداة للتواصل وإنما هي كائن حيّ له حياته الخاصة ومسارات تطوّره.
يفسّر هذا الربط تلك التسميات التي يقترحها تولكين، والتي تبدو كاختراعات لغوية غير أن المعرض يكشف بأنها في أغلبها مستقاة من لغات أوروبية حديثة، وأن معرفته بهذه اللغات قادته إلى الأساطير التي كانت تتدوالها الأمم الأوروبية القديمة من بولندا شرقاً إلى بريطانيا غرباً، ومن النرويج شمالاً إلى جنوب فرنسا.
عل صعيد آخر، يضيء المعرض حياة تولكين الشخصية، حيث عرف اليتم صغيراً، ما عرّضه إلى حالات من الخوف يبدو أنه حاول استعادتها أدبياً، حيث يظهر العالم الذي يختلقه فنياً كفضاء يتصادم باستمرار مع البطل الذي عليه أن يخوض باستمرار معاركَ لبلوغ هدف من أهدافه، وهو ما يتجلّى بوضوح في أشهر أعماله السردية، "سيّد الخواتم"، وهو العمل الذي تحوّل إلى سلسلة سينمائية أتاحت لتولكين شهرة متجددة.
على مستوى ثالث، تُضاء المرحلة التاريخية التي عاصرها، وأهمّ محطاتها كانت مشاركته في الحرب العالمية الأولى. يشير المعرض بوضوح إلى مقاطع من أعماله ويقارنها بمشاهد الحرب الحديثة على الرغم من أن تولكين يأتي على ذكر تقنيات واستراتيجيات حربية مختلفة عن تلك التي شاهدها بعينه.
يضمّ المعرض في مجمله 300 قطعة بين مخطوطات وطبعات أصلية لأعماله وبعض الرسومات التوضحية التي جرى إنتاجها خصّيصاً لشرح العلاقة بين النصوص والواقع.
تكشف المخطوطات بالخصوص على خيال غرافيكي شاسع لتولكين، فقد كان يجسّد بالصورة المخلوقات التي يرسمها أدبياً في وقت لاحق، وهنا يشير المعرض إلى محاولة تولكين اختراع "ميثولوجيا حديثة"، وأن هذه المحاولة كانت حاضرة في أذهان كثيرين من الكتّاب الذين جايلوه، ولكن ما اقترحه على القرّاء كان الأكثر اكتمالاً وإقناعاً.