عِتاب الضاد في يوم عيدها

18 ديسمبر 2017
(نحت بالخط العربي لـ صباح الأربيلي، الدوحة)
+ الخط -

منذ 2012، بات الثامنُ عشر من ديسمبر عيدَك، أيتها الضاد، ومهرجانك. فاليوم يومكِ. أو هكذا أعلنت اليونسكو بانتشاءٍ مريب. ففرح أهلكُ وافتخروا: "يوم عالمي" للاحتفاء بالضاد! ولكن ألا يخفي بهرج الاحتفال البرّاق هناتِك التي جعلتك "تتأخرين" عن لغات الجوار، مع أنها لم تنضج إلا بعد قرون من اكتمال معمارك البياني، فأصبحتْ تلك اللغات، اليوم، تلقّنكِ المعارف، في صلفٍ. وهذه من بين مآخذ عديدة، يفضِّل مطلقو هذه المبادرات أن تظل مستورة خفية. وكدت تنساقين وراء وَهم الكونية.

لذلك أعتب عليك أيتها الضاد في عيدك، لأنك استسلمت لوعود "الأمم" التي خصّصت لك يوماً عالميّاً، وخيَّلت لك زيف الاحتفاء، ومهابة ترسيم استخدامك في المحافل والهيئات الدولية، ولكن هذه الأمم ذاتها هي التي لا تني تمزّق منطقتَكِ العربية، وتكيد لأهلها وتسلب "قُدسها"، وتعيث في "خرائطها المذعورة" تفكيكاً، بعد أن نشرت بين مثقفيكِ لغاتها الأجنبية حتى اعتقد بعضهم أنك ما عدت صالحة لا للتعبير ولا للتفكير. وما الاحتفاء باللغة وأهلها يرزحون تحت نير الهيمنة على بلدانهم، واستلاب مقدراتهم؟

وأعتب عليك أيتها الضاد في عيدك، لأنك ما تمكّنتِ، رغم ما لدى أهلك من الثروات وما في سجلاتكِ أنت من الغنى، من جمع الكلمة عليك، وتوحيد صفوف العلماء في "مجمع لغوي-عربي" واحد مُوحَّد، فإذا بها تسهر عليك هياكل شتّى، لا تكاد تتفق على مصطلح واحدٍ، تتنازع التسمية بك، وكل منها يريد احتكارك، فتذهب في ذلك ريحها عن توليد مصطلحاتٍ يتداولها الناطقون بك بتوحدٍ وتجانس. ومن ذلك اختصموا بين: "محافظ"، "والٍ"، "مُعتمد" و"وكيل"... مفردات أقرّتها المجامع للدلالة على ممثل السلطة في جهاتها. وإنْ اتفقت هذه المؤسسات، فإنَّها لا تُجِدُّ في الحفاظ عليك، شأن "الأكاديمية الفرنسية" أو "الأكاديمية الملكية الإسبانية" مع لغاتها، وإنما تكتفي بالبكائيات في أيام معدودة، ثم تعود إلى مألوف التنازع والعطالة.

ثم أعتب عليك أيتها الضاد، لأنك انغلقت في نَحوكِ القديم، وجعلته دربكِ الملكي، فأرهقت طالبيك بما في تلك "الصناعة" من غرائب الإعراب والإعمال والتعليل والبناء والانصراف. فلم تتشكلي بعدُ مبحثاً علمياً متكاملاً، يغوص في أغواره التحليل الألسني النظري من أجل تفكيك وحداتك الدنيا والعليا، وإظهار نمط اشتغالك وما يحكمه من قوانين البنية والدلالة.

فضَّلتِ أن تظلّي موضوعَ النحو، كما صاغه، من قرون، أسلافنا الكوفيون والبصريون، ولم تعرضي نفسك للدرس الوصفي، الذي يقطع مع المعيارية ورواسب علم الكلام وأشتات المنطق. وامتنعت من الاستواء موضوعاً بارداً للعلم اللساني ومداراً للتفكير النقدي فيه، لأنك ما زلت تحيطين نفسك بهالة الأسطورة والتفوّق، مع أنَّ مناهج عصرنا تأنقت في التحليل البنيوي لمراتب البيان، بل إنك راوغت "المنعطف اللغوي" (Linguistic turn) الذي هزّ، منذ بداية القرن الماضي، المعرفة البشرية وأيقظها من مسلّمات كثيرة قاطعاً مع المنظور الوسيط وفاتِحاً إياها على آفاق الإنسانيات والفلسفة وجماليات الحداثة وسردها.

وأعتب عليك أيتها الضاد، في عيدك، لأنك تبدين الرضا عن اقترانك، في المخيال الغربي، بالإرهاب، فصرت في خطابه الإعلامي، رديفة الفظاعة، وباتت أشهر كلماتك في اللغات الأوروبية: "جهاد"، "شريعة"، "إسلامي"... وكلها ترتبط في سياقاتها التداولية - عن غير حق- بصور الرعب والوحشية. فكيف لم توفّري من مصادرك - وهي ثَرَّة- أدوات للتفكيك، بها تقوّضين جمود هذه الصور الجاهزة، التي اصطنعها الغرب، ونعلم أنها مدسوسة زائفة، صاغها عنك كلماتٍ مُنفِّرة مرعبة، بعد أن كنتِ - لدى أسلافهم - مصدراً للعلوم وأفانين الثقافة، ومن أحشائك انبثق دُرُّ "الجبر" و"الكيمياء" و"القطن" والأنبوب" و"الكحول" دواءً وبلسماً.

قَصروك على فظاعات اليوم، فلم تتفلتي، كلا ولم تفلح "مَجامِعك"، في دمشق والقاهرة، في صد هذه الهجمة، وتعرية ألاعيب الاقتراض التسليبي، ولم تجدي، لا أنت ولا القائمين عليك، من الهمّة ما به تنتجين صوراً موازية. فهل لك في الغرب مؤسسات ثقافية تنشط لهذه المهمة كما ينشط "مَعهد غوته" الألماني أو "المجلس البريطاني" فوق أرضك؟

وأعتب عليك أيتها الضاد في عيدك، لأنك ما حرّرت المرأة من أغلال التمييز التي صُفِّدْت فيها قروناً، مع أن وضعيتها الذهنية، في المجتمعات الناطقة بك، قد تطوّرت، ومن قيود العادات البالية تحرّرت. ولئن صارت "شقيقة الرجل" في سائر الميادين، فإنها لا تزال، في صرف الضاد ونحوها، بل في بلاغتها وأمثالها، تُعامل معاملة دونية، لا يستسيغها ذوقٌ ولا يقرُّها أدبٌ.

فلقد زعم نُحاتُك أنَّ "التذكير هو الأصل"، وأنه يجوز لأي اسمٍ مؤنثٍ أن يلتحق بالتذكير، فلا يتغيّر معناه، فالتأنيث عرضي تابعٌ. ولا يزال جمع غير العاقل، من حيواناتٍ وأشياء، يعامل معاملة المؤنث المفرد، مماثلة بينها جميعاً "في غياب العقل وانعدام الروح"، ويغلب، في مخاطبة الجمع، ولو متألفاً من رضيعٍ ذكرٍ واحدٍ ومليون امرأة، ضميرُ المذكر، حكماً قاهراً وقاعدة لا تتخلّف.

وعنَّ لك أيتها الضاد أن تَسلبي تاء التأنيث، تاج المرأة وزينتها، من كلمات زعموا أنها لا تسند إلا إليها، ولا يشركها فيها الرجل لسلبيتها: فهي "العاقر"، "العانس"، "العجوز"، "الثيّب"، "البكر"...وقد تضيفين إلى المذكر تاء التأنيث هذه، فتجعلينها شارة مبالغة وفخامةٍ في نعوتٍ لا تسند لغير الرجال، مثل: "خليفة"، "عمدة"، "علامة" و"راوية"...تطورت لغات الجارة أوروبا، فقضت، تدريجياً، على مظاهر الميز والاحتقار للمرأة، التي كانت سائدة في تسمياتها وأنحائها، وظللت بها متشبثة، دونما سببٍ يقنع.

وأعتب عليك أيتها الضاد في عيدك لأنك، ورغم ضخامة الموارد التي تتوفرين عليها من اشتقاق وتوليد وتوسع واشتراك، أكثرت من الاقتراض المعجمي دون مبالاة بالعُجْمة، عند تسمية الأدوات الحديثة وأشياء العصر المتسارع، فكل أسماء العلوم وردت لنا واستقرت في قواميسك بصيغها الأوروبية مثل: الأنثروبولوجيا والإتنوغرافيا والانفوراغيفك... حتى غزا المُعرَّب سائر أصولك، ولم تعد تخلو منه جملة.

أعلم أنك ستردّين علي بأن هذا العتابَ ينصرف جله إلى أهلك والناطقين بك، وأنت منه براءٌ، ولا وجود لك إلا في ممارساتهم. نعم، ولذلك أعاتبك ولا ألومك، وأنت أعلمنا بالفرق بين العتاب واللوم، ولكني آخذُ على أهلك الذين تسامحوا في هذه الهنات المنبثقة من صلبك، وأذعنوا لهالاتك الخاطئة، فتربّصتْ بنا وأعاقتنا أينما وليّنا وجوهنا.

ألومهم وأعتب عليك لأنك لنا خبزٌ يوميٌّ ولست أداة ندعوها لاستعمالات محدودة. كما أنك لا تخصّيننا وحدنا، فأنت الإرث الذي سنتركه لأبنائنا، وحقيقٌ بنا ألا نترك لهم، ظلماً، معرّة التخلف عن سباقات التنافس العالمية في ميادين العلم والأدب والفكر. وحتى لا يُخدّر مقام الاحتفال نفوسنا، فنراك قطعة أثرية، ككثير من تراثنا موزّعٍ بين متاحف باريس ولندن. أعتب عليك لتنهضي بنا.

المساهمون