من السهولة بمكان أن يلمس متابع الفعاليات الموازية لـ"معرض فرانكفورت للكتاب" أنه بعيداً عن المواضيع الأدبية والعلمية والتقنية حول الكتاب، تبرز مشاغل متعدّدة أبرزها التواصل بين الثقافات (على رأسها العلاقة بين أوروبا والعالم العربي) وقضية اللجوء.
كان عالم الاجتماع الفرنسي، المقيم في أميركا، ديدييه فاسين (1955)، أحد ضيوف الدورة التي اختتمت الأحد الماضي، باعتبار أن بلده ضيف شرف 2017، لكن لم يكن ذلك هو السبب الوحيد، فعالم الاجتماع الفرنسي يقدّم منذ سنوات قراءة في متغيّرات العالم الحديث، ومن بينها أثر النزعة الأمنية على حياة الناس وتأثيرات الهجرات البشرية على المجتمعات الغربية.
آخر إصدارات فاسين كان كتاب "الحياة: طريقة استخدام نقدية" (صدرت ترجمته الألمانية قبل صدوره بلغته الأصلية، باعتبار أن نواته مجموعة محاضرات ألقاها المؤلف سابقاً بدعوة من جامعة ألمانية)، وهو العمل الذي انطلقت منه محاورته أنيت غيرلاش، مقدّمة البرامج الثقافية في قناة "أرتي" في ندوة نُظّمت ضمن "معرض فرانكفورت" يوم الجمعة الماضي.
يستعير فاسين في هذا الكتاب عنوان رواية للكاتب الفرنسي جورج بيريك (الحياة: طريقة استخدام)، مشيراً إلى أنه في هذا العمل يبتعد قليلاً عن قواعده العلمية، ويحاول أن ينظر إلى العالم بطريقة تركيبية شبيهة بقطع لعبة البزل كما فعل بيريك، حيث إن تغيير مكان قطعة يمسّ بالصورة كاملة.
العمل، كما يشير فاسين، يجيب عن سؤال تنساه المعارف؛ ما الحياة؟ وهو سؤال بسيط ومعقّد في الوقت نفسه. يقول عالم الاجتماع الفرنسي "بسيط كما تبدو الصورة النهائية، ومعقّد بسبب أنها مركّبة من عدد كبير من الصور".
حين تسأله محاورته عن قضية اللجوء من منطلق كتابه، يقول فاسين إن حركة الهجرات البشرية متواصلة، وأن الموجة السورية الأخيرة كانت مرئية بسبب كونها حدثت في أوروبا، في حين أنه يوجد حركات هجرة أوسع في مناطق أخرى، ضارباً مثال الهجرة بين زمبابوي وجنوب أفريقيا، وهي أضعاف ما حدث بين شرق المتوسط وأوروبا.
بدل كلمة اللجوء، يفضّل فاسين استعمال تعبير "الرحّل القسريون"، ويعتبر أن الترحّل هو شكل أساسي من أشكال الحياة، وقد اعتقد علماء الأنثربولوجيا أن تضخّم المدن مؤشر على نهاية الإنسان المترحّل غير أن التاريخ يكشف في كل مرة عن وجود عناصر محرّكة للترحال، مثل الحروب والرخاء الاقتصادي والحريات السياسية.
يرى فاسين أن سياسات التعامل مع المترحّلين تكاد تكون واحدة بين مختلف البلدان والقارات، ما عدا السياسات الألمانية والسويدية. وجميع هذه السياسات تعبّر عن تناقض بين أخلاقيات الحياة وسياسات الحياة، وهو تناقض يشبه ذلك التناقض الذي أشار له ماركس بين علاقات الإنتاج ووسائل الإنتاج والذي يخلق في النهاية أزمات الاقتصاد والمجتمع.
يفصّل فاسين هذا التناقض باعتبار أن أخلاقيات الحياة تقول إن الحياة في حدّ ذاتها قيمة عليا، وبالتالي نجد أن التكنولوجيا (وبالتالي الطاقة الاقتصادية للمجتمعات) تعمل جاهدة من أجل إطالة الحياة وتحسين جودتها، فيما أن سياسات الحياة تأتي بممارسات تضييقية على الأحياء، مثل الرقابة الأمنية المشددة وتجهيز الغيتوهات والرفض في سوق العمل وعنف الصورة الإعلامية.
هذا الوضع القائم على التناقضات ينتج بالنسبة لـ فاسين أشكالاً جديدة من الحياة، مثل وضعية المترحّل غير المندمج في المجتمع الجديد، أي ذلك الشخص الذي يقف بين الترحّل والاستقرار بشكل دائم، وعلى مستوى سياسي ينتج هذا الوضع نموذج "الدولة المعاقِبة" التي يتوسّع مجال مراقبتها ومعاقبتها ليشمل فئات كثيرة، ولا يقتصر على المذنبين قانونياً فحسب، ولا يكون ذلك إلا على حساب الخدمات الأخرى التي تقدّمها الدولة.
بذلك، يبدو فاسين وقد أدمج سؤال اللجوء في مشغل رئيسي هو التفكير في المسألة الأمنية ظهر في مؤلفاته السابقة مثل "حوكمة الأجساد" (2004) و"إمبراطورية الصدمة" (2007) و"المعاقبة.. هواية معاصرة" (2017)، وهو الذي يعتبر أن قضايا الأمن والصحة ينبغي أن يكونا في أولويات العلوم الإنسانية.