"كتاب النثر": موسى وهبه وحياة في الفلسفة

10 ديسمبر 2019
(موسى وهبه)
+ الخط -

تشبه علاقة موسى وهبه بالفلسفة تلك العلاقة التي يتحدّث عنها جيل دولوز، في ألفبائه المصوّر، بين الفيلسوف وتاريخ الفلسفة. يأخذ دولوز فان غوغ مثلاً. فالفنان قضّى سنوات طويلة في المران، بالبورتريهات والألوان المتواضعة، قبل الوصول إلى استخدامه الفريد للّون، الذي جعل منه فان غوغ الذي نعرفه. كذلك حال الفيلسوف، الذي يتمرّن ببورتريهات فلسفية، وبزيارات طويلة لتاريخ الفلسفة والفكر، قبل أن يتمكن من اللغة التي يريد أن يقول فيها خصوصيته.

في ما يخصّ موسى وهبه (1941 - 2017)، يصبح المران حياةً أو أسلوب تفلسف. فرغم أنه عاش عمره في الفلسفة ومعها، كتابةً بحثيةً وتدريساً، إلا أن المفكّر اللبناني لم ينشر كتاباً واحداً يحمل توقيعه كمؤلّف. بأيّ نوع من البورتريهات كان يشتغل؟ "أتمرّن إذاً على القول الفلسفي بالعربية"، يقول في حوار قديم معه، "وترجمة كنط ذريعةٌ لأنّ القول يحتاج أبداً إلى ذريعة".


حياةٌ ككتاب
منذ صدور الترجمة (1989)، لا يكاد اسم وهبه يرد إلا مقروناً بكنط وبكونه ناقل "نقد العقل المحض" إلى العربية. لكن الإحالة الشائعة إلى ترجمته الفذة والفريدة تؤول، في بعض الأحيان، إلى لعب دور الشاشة التي تحجب خلفها الرجل وأعماله الأخرى. ترجمتاه لمباحث هوسرل المنطقية (2010) ولمبحث هيوم في الفاهمة البشرية (2008) لا تقلان أهمية وإبداعاً. أما اشتغالاته الأخرى، اللاترجمية، المنثورة هنا وهناك، أو التي لم ينشرها حيّاً، فقد بات ممكناً اليوم الاطلاع على قسم منها في "كتاب النثر"، الصادر عن "دار التنوير".

مع هذا الإصدار، تكون قد سُحبتْ ذريعةُ اختصار وهبه، من قفا اليد، بكنط وبترجمته له. ويصبح الرجوع إلى نصوصه ضرورةً للحديث عنها وعنه. ألم يكن وهبه أوّل الواعين بهذا الاختزال، هو الذي أعاد إلى الحياة، من عتمة المعجم، الجذر بَعَطَ، الذي يفيد بإخطاء الوجهة وبالمغالاة في الجهل؟ في أحد الحوارات التي يعيد "كتاب النثر" نشرها، يذكّر، ساخراً، بمشاريع عربية لترجمة "آثار كنط" ماتت في الستينيات قبل ولادتها؛ فهي بُنيتْ على أساس "صيت كنط في الفكر الفلسفي العالمي" (ص. 113)، لا على أساس اطلاعٍ على فلسفته. كأن وهبه، هنا، يستبق في فلسفته ما قد يلمّ بها، محذّراً من اغتيالها بمنطق البعط، الذي تدافع عن نفسها ضدّه، بمنْحِه اسماً ومكاناً بين الظواهر التي توقفت عندها وصفاً ونقداً.

"كتاب النثر" ليس كتاباً بالمعنى التقليدي للكلمة، بل مجموعة نصوص وحوارات ورسائل جمعها جمال نعيم، أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة في "الجامعة اللبنانية"، وتلميذ وهبه قبل ذلك. ومن المنتظر أن يلحق بهذا الجزء الأول، "الذي يجمع الفلسفة إلى الأدب"، جزء ثان على الأقل، أو جزءان ثان وثالث في أفضل الأحوال. والأمر فيه تردّد لأن نعيم، في مقدّمته الموجزة للكتاب، يطرح الاحتمالين معاً. فتارة يقول: "خصّني الفيلسوف موسى وهبه، قبل رحيله، بنصوصه التي كان ينوي نشرها في كتابين مستقلين (…). الكتاب الأول هو كتاب 'البَعْط الفلسفيّ بالعربي' (…). الكتاب الثاني هو 'كتاب النثر'” (ص. 7)؛ وتارةً: "كتاب النثر هو الكتاب الأول. يليه، على الأقل، كتابان آخران، لعلّنا نستطيع بذلك أن نضع تراث هذا الفيلسوف بين أيدي الجميع" (ص. 9).

أياً يكن، فالمبادرة تستحق الإشادة. إذ تسمح لنا بالدخول إلى عوالم واحد من المشاريع الفلسفية النادرة في اللغة العربية المعاصرة، والتي لم يُتِحْ لها طولُ المران على القول الفلسفي بهذه اللغة أن تأخذ وقتاً لقول ما تريد في صيغة تقليدية، أي في كتاب. في أحد المعاني، لا يبدو الأمر مناقضاً للمنطق الذي حكم تجربة وهبه. فالمسألة التي ظلت تشغله هي مسألة التأسيس لتفلسف بالعربية. والتأسيس، في هذا المعنى، ليس خلقاً من عدم، بل أمكَنَةً لممكن، وليس حفراً لآبار ارتوازية، بل استنباتاً لينابيع (ص. 280). لكنّ الأمر، كما يبدو، يحتاج إلى أكثر من حياة. يحتاج إلى حيوات لا تتمرّن على التفلسف عربياً فحسب، بل تتمرّن من خلالها العربيةُ المعاصرة على قول الفلسفة. بهذا المعنى الواسع، تصبح حياة الفيلسوف نفسها كتابَه الذي تؤلفه من خلاله ومن بعده اللغةُ التي يتمرّن فيها. هي، إذاً، حياةٌ-كتابٌ؛ فالغرضُ فيها واحدٌ، والمعنى يتقدّم من فصل إلى آخر، بين مقدّمة تختم ما قبلها من مساع تأسيسية، وخاتمة تفتح لما سيجيء بعدها من بناء.


تسوية مع الذات
الجديد في تأسيس وهبه لتفلسف باللغة العربية هو تجاوزه، من ناحية أولى، الجدلَ بيزنطيّ الشكل حول ثنائيات الحداثة والتراث، الشرق والغرب، الشمال والجنوب. فـ"التسوية التي على أساسها قامت ثقافتنا العربية المعاصرة قد تبدلت عناصرُها"، كما يكتب، و"ظهرت الحاجة إلى إقامة تسوية جديدة" (ص. 283). لا تدور هذه التسوية الجديدة حولـ"نا" أو بينـ"نا"، بل "بين عناصر الاجتماع الإنساني". يتمثّل ذلك في "وجهة نظر أخرى" تستند "لا إلى إرادة السلطان الشهيرة" (فوكو) وما تفترضه من أسبقية العداوة بين الأنا والآخر، بل إلى "إرادة التعارف" (ص. 284). تقتضي هذه الأخيرة، من ضمن ما تقتضي، أن "يتراجع السؤال: من نحن؟ ومن أنا؟ وماذا تريد أو أريد؟ ليتقدّم سؤالٌ آخر: ما الآخر؟ وكيف هو؟ وماذا يريد؟" (ص. 285).

هنا، يبدو وكأن وهبه قد وجد عند إيمانويل ليفيناس، وقوله بمركزية الآخر وأولويته على الذات، نموذجاً يمكن الاستئناس به لمشروع "استنبات الينابيع" و"رفد المخزون الإنساني العالمي" بدل الاعتماد على مياهه (ص. 280). لكنّ مقترح "إرادة التعارف"، في صيغته البسيطة والمقتضبة هذه، يظلّ ضعيف الحجّة؛ ولا نعرف إن كانت نصوص الجزء أو الجزأين الآخرَيْن من آثار وهبه تحمل إثراءً له. فـ"إرادة التعارف" التي تطرح أسئلة من قبيل "ما الآخر؟" و"كيف هو؟" تدور، بطريقة أو بأخرى، في فلك "إرادة المعرفة" كما وصّفها فوكو. أي أنها، بعبارة أخرى، ما تزال تتكلم لغة السلطان، كما يحبّ وهبه تسمية السلطة.

من ناحية أخرى، يتجاوز التأسيس عند وهبه التعويلَ على "نهضة" مؤسساتية أو بنيوية تأخذ على عاتقها مسؤولية البدء. لا يمكن للفلسفة، ولا للبدء الفلسفي، أن يكونا قضية عمل (براكسيس)، أي غرضاً لمشروع ثقافيّ-سياسيّ. الأمران متضادان. الاشتغال الفلسفي ليس ممكناً إلا بالمفرد (ص. 30 وما بعدها)، عند ذات تعيش على هامش المتن الاجتماعي. "أنا هامشيّ وسأظل هامشياً، بما أنا مثقّف"، يقول وهبه (ص. 101). لا يعني هذا أن الفيلسوف يعيش وحده في جزيرة، كحيّ بن يقظان، ولا في عالم مثالي غير مسيّس. إنه، ببساطة، يرفض تأسيس التفكير - بوصفه فعلاً فردياً حراً - على أرضية مشروع ثقافي-سياسيّ يحتوي هذا التفكير ويعطيه شكله. ذلك أن هذا النمط من المشاريع "يقوم بعملية استلاب أساسية للمفرد" و"لا يراه إلا رقماً في مجموعة". يفضّل وهبه أن ينتمي، بدلاً من ذلك، إلى "الثقافة اللامنتمية"، التي تذكّرنا بغرابة المبدع على مجتمعه عند كولن ويلسن. "فالثقافة عندي وسيلةٌ مكمّلة للحياة وليست مبرّرة لها. والحياة لا تحتاج إلى تبريرٍ، بالعكس، الثقافة هي التي تحتاج إلى تسويغ. تسويغ الثقافة، أنها تجعل الحياة أخفّ عبئاً"، يكتب وهبه (ص. 95).

تقود هاتان النقطتان إلى خلاصة واحدة، تأخذ مكان القلب في فلسفة وهبه. الحديث هنا عن ضرورة أن يصبح الكونيّ، أو ما يسمّيه بالكلّي أو اليونيفرسال، أفقاً لكلّ فكر جدير بهذا الاسم. يستند الحديث عن الكلّي أو اليونيفرسال إلى إقرار بوحدةٍ للعقل البشريّ تحفظ تعدّد وجهات النظر "على تعدّد أوجه الكينونة ولاتناهيها" (ص. 44). بهذا المعنى، لا بدّ للفكر العربي، كي يتعافى، من التطلّع إلى صيغة كلّيّة أو يونيفرسالية منه، يمكن مشاركتها مع الإنسان الآخر. أي أنه، بعبارة أخرى، محتاجٌ إلى التفلسف وإلى علوم إنسانية. بخلاف نظرية مركزية الآخر المذكورة أعلاه، والمصوغة بلغة الإنسانيّ والمشترك، تقوم العلاقة مع الكلية أو اليونيفرسالية على فهم للحقيقة تنافسيّ ومصلحيّ. فكما عند نيتشه، الحقيقة هنا وجهة نظر فردية بالأساس، يعتمد تعميمُها وتداولُها بين الناس على قوّة حجّتها وتناسقها ومدى نجاحها عمليّاً؛ وإذا حققت هذه الشروط، صارت تنتقل من فرد إلى آخر كما ينتقل المرض بالعدوى (ص. 38).

هذا الاختلاف ليس تفصيلاً، بل هو مناخٌ يحكم "كتاب النثر" وقضاياه المطروحة، والتي غالباً ما يُراوحُ نظرُ وهبه فيها بين موقفين متضادين ينفي أحدهما الآخر، ويجعلاننا نفكّر بأننا أمام لحظتين مختلفتين من تفكير الرجل. ففي النصوص الأولى، التي تأخذ ملامح نيتشوية وفوكوية (رغم نقدها لفوكو)، يقول وهبه عدداً من مقولات الإرادة الفردية وإرادة السلطة (أو السلطان) ليصل إلى القول بأن المرحلة الأولى، الطبيعية، من اجتماع الأنا إلى الآخر هي مرحلة "الاقتتال والصراع حتى الموت أو الاستتباع" (ص. 45). أما في القسم الأخير من الكتاب، الذي يسود فيه خطابٌ إنسانيّ تسوَويّ، وتحوم فيه أطياف هوسرل وميرلو بونتي وليفيناس وأسئلتهم وأساليبهم، فيقول بضرورة "التنبّه إلى أن العداوة ليست هي الأصل في علاقة الاجتماع البشريّ، وإلى أن المُهارَشة والغَلَبة ليست بالضرورة غاية كلّ اجتماع يوصف بالإنسانيّ" (ص. 284).

على أيّ حال، ليس حريّاً بنا أن ننتظر وِحدةَ قولٍ من نصوص متفرقة لم يتسنّ لصاحبها تصحيحها وإنجازها على الوجه الذي كان ليقنعه. فالاختلاف بين نصوصه قد يبدو، على العكس، دليلاً على فكر مرن، منفتح على النقاشات الفلسفية المعاصرة، ومشغول بالاشتغال على نفسه. بهذا المعنى، يهدينا "كتاب النثر" موسى وهبه متجدداً، "يضبط ساعته على توقيت العصر" (ص. 24)، ولا علاقة له بذلك الرجل الذي يظنّ الباعطون أنه توقف عند لحظة اكتشافه كنط كما توقفوا هم عندها.


مشاكل تحريرية
لا بدّ، في النهاية، من تسجيل بعض الملاحظات حول أخطاء تحريرية وإخراجية تأتي مفارقةً لتطلّب المحتوى بل ولأناقة الغلاف. فنحن لا نعرف إن كان ثمة منطقٌ يحكم ترتيب النصوص بعضها وراء بعض. نميل للقول بأنه ترتيب بحسب الموضوع المطروح، لكننا نفاجأ بنصوص مبعثرة رغم تطابق موضوعها ولغتها (وتقارب تاريخ كتابتها في الغالب)، كما هو الحال مع "تقاسيم على نيتشه، يكونُ كأنْ لم يكنْ"، المنشور في الصفحة 11، و"تقاسيم على نيتشه"، المنشور في الصفحة ص. 222. ينطبق هذا على نصوص اليوميات، الجميلة في خفّة نبرتها، حول المدينة، والتي تتوالى تارة، وتتفرق وراء نصوص أخرى تارةً. هل السبب تاريخُ كتابتها؟ إن كان الأمر كذلك، وإن كان ثمة تاريخٌ معروف للنصوص يحكم ترتيبها، فلمَ لم يؤرّخها لنا جامعُها أو محرّرها أو حتى ناشرُها؟ كان ذلك ليحلّ مشاكل تحريرية كهذه، وليساعدنا، كقرّاء، على استيعاب أمور ملتبسة في محتوى الكتاب، كالعلاقة بين اللحظتين في فكر وهبه المذكورتين أعلاه.

النصوص الوحيدة المؤرّخة، في "كتاب النثر"، هي بعض المقالات، والحوارات الصحافية باستثناء حوار واحد (ص. 107)، لا أسئلة فيه، بل أجوبة مرقّمة فقط. استبدلت دار النشر، في هذا الحوار، هامش التأريخ له بهامش يخصّها، تذكّر فيه بأن "نقد العقل المحض" عاد وصدر لديها بعد سنوات من طبعته الأولى؛ فما عُدنا نعرف إن كان الحوار صدر فعلاً، ومتى، أم لا، ولا السبب الذي يرد فيه بلا أسئلته. في بقية الحوارات المؤرخة، نجدنا نقرأ، كما في هامش حوار أجراه حسن داود مع وهبه، ما يلي: "مقال لموسى وهبه نشره في جريدة السفير الأحد 16/ 01/ 1983". تحضر الصيغة هذه، "مقال لموسى وهبه..."، على نحو غريب، في هامش كل حوار مؤرّخ. ألا يميّز المشتغلون على الكتاب بين حوار ومقال، وألا يشكّون بأن المحاوَر ليس القائم على نشر نص الحوار؟

يضاف إلى هذا وهذاك، حضورٌ، لا نعرف سببه، لترجمةٍ للمقطع 125 من "العلم المرح" لنيتشه ("بهجة العلم" عند وهبه)، تحت عنوان "الأهبل". ما الذي يفعله نصّ لنيتشه، لم يُحدّد حتى إن كان وهبه هو الذي ترجمه، ولا إن سبق أن نشره، أو إن كان جزءاً من مشروع لترجمة "العلم المرح"، بين نصّ لوهبه عن أمراء الحرب في لبنان، وحوار "عن النساء" أجرته معه "مجلة الحسناء"؟ أما ترويس نصّين، دون غيرهما، بنجمة * (ص. 166) وحرف عطف لاتينيّ & (ص. 168)، فوحده مخرج الكتاب يعرف سببه، أو ربما لا يعرفه. ننهي هذه الملاحظات بالتذكير بنصّ يوميّ حول النوم ("كلما أمعنتَ في طلبه تمنّع")، منشور في الصفحة 259، يغيب تماماً من جدول المحتويات. لا يأمل المرء إلا أن يجري تجنّب هفوات كهذه في أي طبعة لاحقة، وفي الجزء أو الجزأين الآخرين من أعمال وهبه، احتراماً لدقّته وصرامته اللتين، لو كان حيّاً، لأخرجتا كتابه في حال أفضل.

المساهمون