"من روسيا مع الحب": تقويم زمن الاحتلال

19 ديسمبر 2016
(طفل هارب من القصف في حلب، تصوير: جواد الرفاعي)
+ الخط -

ربما لاقتفاء أثر "بيريللي"، شركة الإطارات الإيطالية التي تُصدر تقويماً كل عام تحتلّ صفحاتِه صورُ أجمل وأشهر عارضات الأزياء بعدسات كبار المصوّرين العالميين، أو لنزوع خفيّ نحو ماض كانت تتصدّر فيه البروباغندا أولويات السياسة للاتحاد السوفييتي. ليس هناك من تفسير واضح لإصداره في السادس عشر من كانون الأول/ ديسمبر، بينما آلاف المدنيين الناجين من جحيم البراميل والعنقوديات ينتظرون دورهم في التهجير القسري.

واقعة تعيد سؤالاً يطرحه محلّلون سياسيون وكتّاب وحتى مواطنون عاديون: هل تخلّى العالم مرة واحدة وإلى الأبد عن إنسانيته، عن المبادئ والقيم التي أعلنها بنفسه وهو يلملم جراحه وآلامه بعد الحرب العالمية الثانية؟ سؤال طُرح مرات عديدة، آخرها أثناء غزو العراق، من دون أن يجد من يحتضنه أو حتى مجرّد حيّز لنقاشه.

التقويم الذي موّله الكرملين وتبناه العسكر في دمشق لشحذ همم جنودهم وتلميع صورتهم التي تلطّخت بدماء أهل حلب وغبار أنقاضها، تطلّ من صفحاته وجوه فتيات سوريات مصحوبة بعبارات تُمجّد الدور "السلمي" لجيش موسكو.

على صفحة الغلاف وإلى جانب العنوان "من روسيا مع الحب"، تظهر فتاة تقدّم نفسها على أنها تمارا إسحاق، وتقول بأنها من طرطوس، المدينة التي تحوّلت إلى قاعدة بحرية روسية، مضيفة: "إنني أعيش بسلام منذ أن أصبحت أرضي تحت سيطرتكم". أهي جملة بريئة، أم وضعها أحد الجنرالات في فمها مجازاً؟

قبل بدء توالي الصفحات، مقدّمة قصيرة تشرح كيف أن التقويم يريد أن يكون جواباً على أنباء أشاعتها الولايات المتحدة وأوروبا حول روسيا: "في الحديث عن الصراع في الشرق الأوسط، وسائل الإعلام الغربية تتناسى باستمرار المساعدات الإنسانية الروسية، عن شجاعة جنودنا وعن آلاف المدنيين الذين تمّ إنقاذهم من فريسة عبودية تحيق بهم". ويبدو أن من كتب هذه المقدمة، تعمّد ألا يذكر آلاف المدنيين الذين قُتلوا أيضاً أثناء الغارات الجوية السورية على حلب ومختلف المناطق السورية الواقعة تحت سيطرة المعارضة.

لا يخلو التقويم من عبارات مودّة مثل تلك الواردة في المقدمة: "أولئك الذين عاشوا مأساة الحرب في سورية واجتازوا مصاعب الصراع، يتذكّرون جيداً الجهود الروسية". فتاة أخرى تُصرّح بوضوح مغزى التقويم: "كل واحدة من الفتيات السوريات تملك قصتها الخاصة، ولكن الكلّ يجمعهن شعور بالامتنان الصادق تجاه العسكريين الروس".

يُفتتح التقويم بصورة رشا ديب، وجه شهر كانون الأول/ يناير، من اللاذقية. في إشارة للجيش الروسي، تقول العبارة التي ترافق صورتها: "أحسست فوراً أن نواياكم جدّية". وإلى الأسفل قليلاً، هنالك عبارة تقول بأن أكثر من ثلاثمائة قرية "حُرّرت" من قبل الجيش الروسي، في إشارة واضحة إلى القرى التي انسحبت منها قوات المعارضة في جبل التركمان تحت وطأة الغارات الجوية الروسية.

وجه شباط/ فبراير الذي يُحتفل فيه بيوم الجيش في روسيا، هو لـ ميساء سلمان، وأثناء الاحتفال بهذا اليوم، النساء يقدّمن هدايا للجنود. وتليها سارة صخر وجه آذار/ مارس، من اللاذقية، تقول وهي تضمّ ذراعيها على صدرها: "كنت أخشى من أننا سوف لن نلتقي أبداً". خشية لم تكن في محلها كما اتضح لاحقاً.

كارينا يونس تقدم شهر نيسان/ أبريل، متوجّهة إلى الجنود الروس بقولها: "عرضت عليكم أن تنتقلوا إلى طرطوس"، وكأن عبارتها تشير إلى تنازل النظام عن القاعدة البحرية في طرطوس لـ بوتين.

شهر أيار/ مايو، ينحرف فجأة من الساحل إلى الداخل، ليقدّم لنا وجه إلكا الخطيب من حمص، التي تتساءل: "كيف تعرف بأنني أحب الموسيقى الكلاسيكية؟". هذه العبارة تشير إلى حفل "صلاة من أجل تدمر"، الذي أحيته أوركسترا "مسرح مارينسكي السيمفوني" بقيادة المايسترو فاليري غيرغييف في أيار/ مايو الماضي، بعد أن خرج داعش من تدمر.

وخُصّص شهر حزيران/ يونيو للمعجبين الروس بوجه لجين مهنا، التي تعترف: "كنت أدرك مسبقاً كيف سأقضي هذا الصيف". وتعليق في الأسفل:" بالسيطرة على الحدود السورية – اللبنانية".

دور حلب يأتي مع شهر تموز/ يوليو ووجه فاطمة قدسي، التي تعرض بفخر مجوهراتها وتهمس: "سترون، على الأقل للحظة واحدة". واللحظة ربما يُقصد بها الغارات الأولى لطائرات الميغ والسوخوي التي دكّت أحياء المدينة الشرقية في الأيام القليلة الماضية، ملقية فوق رؤوس سكانها كل أنواع القنابل والصواريخ المحظورة دولياً.

صفحة آب/ أغسطس اللهّاب، تحتلّه كاميليا سيرانيم من تدمر التي تفوّض مصير مدينتها إلى الجنود الروس: "تدمر أمانة بأعناقكم"، بعد أن عاد داعش لاحتلالها مؤخراً.

من صفحة أيلول/ سبتمبر يُطلّ وجه مرام حمصي، هي الأخرى من حلب، تسأل الجندي الروسي، أو ربما القائد الأعلى شخصياً: "هل تذكر كيف التقينا؟". السؤال يشير إلى الطلعات الجوية الأولى للمقاتلات الروسية في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي.

في منتصف الخريف، شهر تشرين الأول/ أكتوبر، نلتقي بوجه يارا حسن من طرطوس، التي تسأل:" قل لي من هو رئيسك الأعلى، وأنا أقول لك من أنت؟"، وهي تقصد بلا مواربة بوتين، الذي يصادف عيد ميلاده في هذا الشهر.

على صفحة تشرين الثاني/ نوفمبر نجد ماري سعيد عمر، هي الأخرى من حلب، متسائلة: "أهي حاملة طائرات تلك المتوقفة قبالة الشاطئ السوري؟"، تسأل وهي تشير إلى تاريخ وصول حاملة الطائرات الروسية "الأدميرال كوزنيتزوف في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.

في شهر كانون الأول/ ديسمبر، تعود تمارا إسحاق لتختتم السنة بتهنئة حارة: "عيد ميلاد سعيد! شكراً للجنود والمواطنين الروس الذين يحمون سورية".

ولو كانت السنة ثلاثة عشر شهراً، لكنا تساءلنا نحن أيضاً: "أهو تقويم بريء، أم أنه موجّه إلى طرف معين؟"، إيران مثلاً!


* كاتب سوري مقيم في إيطاليا

المساهمون