أوراق الغرفة 517

28 مايو 2018
(محمد الحارثي)
+ الخط -

قبل عامين تقريباً من رحيله، كتب الشاعر العُماني محمد الحارثي (1962 - 2018) على وسادة المرض ما يشبه رحيله اليوم:
"لم لا تبتسم الآن؟
خبِرْتَها، خبِرْتَها هذه الحياة الحُلوة المُرَّة الحامضة المالحة
وأنت في المُنتصف تقريبًا بين الخمسين والسِّتين
عدالةً لما انقضى، ولما تبقّى من وعود تغزلُ حَريرَها
في كهف الكُتب المُقدسة".

هنا مختارات من مجموعة الشاعر الأخيرة "الناقة العمياء"، 2017، فصل "أوراق الغرفة 517 لذكرى أمل دنقل".


ليلة رأس العام 2016
"الموتُ أستاذٌ، وتلاميذه حَولي" أحمد راشد ثاني

مُرقّد منذ ثلاثة أسابيع في مستشفى جامعة السلطان قابوس
بسبب احتشاء القفص الصدري بأمواه راكمها ملحُ الطعام..
لم تعد أقراص "الفيُوريسّيمايد" المُدرّة للبول نافعة
وعضلة القلب بالكاد تعمل كماكينة ديزل معطوبة
بنسبة 25% قابلة للنقصان!

أقرأ كتاب مارك كيرلانسكي: تاريخ الملح في العالم..
رغم ذلك تبدو الليلة بعيدة عن اشتهاء الملح والصراع عليه
وتخزينه وفرض الضرائب
فكلّ ذلك (وفقاً للمؤلف) ضربٌ من المشهدية
الفائضة والغباء.

المُمرضات الفلپينيّات علّقن البالونات وأشرطة الفرح الملونة
احتفاء بمقدم العام الجديد..
السرير المُجاور كان خاليًا بعد استلام الله وديعته قبل يومين
تلك الليلة كنتُ أفكِّرُ فيمن سيخلف الشيخ الراحل؟..

لم يطل انتظاري
لأنهم جاؤوا بمريض غائبٍ عن سُنَّة الوعي
قبل أن تدق ساعة منتصف الليل
ليستنطقه طبيب من قسم الطب السُّلوكي.
...............................
...............................
حاله أفضل مني:
لن يعرف الفارق بين الأعوام في نهاية المطاف.

غرّة يناير 2016

■ ■ ■

قسْطرَة
(Angiography)

بعد شهر من العذاب الإكلينيكي؛ اضطررت لترك مستشفى الجامعة
لأصعد الطائرة على كرسيّ مُدولَب كالمُقعدين..
تساءلتُ لماذا أرادوا قتلي؟..
لتبرير فشلهم أمام الله والسُّلطان

ها أنا ذا نزيل الغرفة 517 في مستشفى بانكوك للقلب.

ما أسعدني، ما أسعدني!
ثمة غُرفة
ثمة شُرفة
وسماءٌ ماطرة أحياناً..
وجبات طعامٍ أشهى مما ذقتُ طوال حياتي
سقّايات وريدٍ ينبضُ بالكاد، حبوب زرقاء وخضراء
وبيضاء وسوداء كحلوى الأطفال.

شفطوا خلال 48 ساعة 9 كيلوغرامات
من بحيرة الماء المُتراكم دهراً في قفصي الصدري..
طبيبي يُشبهُ ضفدعة القلب الرَّفاص
لطيفٌ مُبتسِمٌ دومًا..
مِسماع أذنيه دقيقٌ
يَسبرُ مجرى نبضات القلب كضفدعة
المَحْو المسحور.

أجرى عملية قسْطرةٍ للقلب، وأخبرني:
عملية القلب المفتوح في 20 أبريل 2013
لا خطأ فيها، لكنّ القلب ضعيفُ الضّخ، وقد يستدعي الأمرُ
استزراع مُنظم ضربات للقلْب القُلَّبِ
علّك تُحمى في حالات الشِّدة من موتٍ قسريّ.

مستشفى بانكوك، 24 يناير 2016

■ ■ ■

لا ترحَلْ مُبكراً إلى الله

حين كنتُ مُرقّدًا في مستشفى جامعة السلطان قابوس
بلغ وزني بسبب تراكم المياه في قفصي الصّدري 86 كغم
وغادرتُ وطني غير الشفوق إلى تايلند.

في مستشفى بانكوك
استخرجوا تسعة كيلوغرامات من المياه الحبيسة حول رئتيّ
لدرجة اعتقادي أن الله شخصيًّا سيعجز عن القيام بتلك المهمة
وسيدفن عجزه معي في القبر..
لكن المعجزة تحققت بعد عمليّتي القسطرة
واستزراع جهاز منظم لخفقان القلب.

بعد عودتي مُتعافياً، لم يكن غريباً ما قالته إحدى أخواتي:
حمدًا لله على سلامتك!
تبدو الآن في وزن الرِّيشة بعد اعتقادنا أنك راحلٌ إلى مَحْوِ السّماء لتلحق بشقيقك عبد الله حين كنا نزورك (طوال الشهر الذي أمضيته في مستشفى الجامعة) فاقدين أمثولة الأمل؛ لدرجة أنني جهّزتُ كفنك والقطن الذي سنحشو به فمك وكافة ثقوب جسدك من منخريك وأذنيك حتى فتحة مؤخرتك، مخلوطاً بالكافور والعنبر ومزيج عطور نفاذة وعود كمبوديٍّ ثمين؛ علَّ الروائح الزكية تُؤجِّل مهمّة نخر الديدان لجثتك في القبر.

لحسن الحظ خابت كافة ظنوننا بعد عودتك سالماً غانماً
على بساط حياة جديدة من بانكوك..
المدينة التي كنا نخاف من رحلات أولادنا المراهقين إليها
ليعودوا بما صار يُدعى تخفُّفًا من أسطورية رُعبِه:
مرض المناعة المُكتسبة.

مرّة أخرى نشكر الله (الذي يُشاع أنك لا تُؤمن به) على عودتك
إلى فيافي وطنك الأخضر..
وصدِّقني، صدِّقني رحلة عُمرة أو حجٍّ إلى مكّة
ستضاعف أمد بطارية مُنظم خفقان القلب المُستزرع في صدرك
سنوات إضافيّة قدَّرَتها سلفًا مشيئة العليّ القدير.

لم أفهم كيفية عمل منظم خفقان القلب هذا
لكنهم أخبروني أن قلبك أشبه بسيارة ضعفت بطاريتها ويحتاج
لشاحن يعيد شرارة الكهرباء المطفأة فيه..
لطفًا، لطفًا لا تتركنا فجأة مثل شقيقك عبدالله
فالله الله في مزرعة الله
التي لن نحتمل عطشها فيما لو رحلتَ فجأة
لأنّ قلبي يعرف أن الله أراد أن تكون معنا
فلا ترحل مُبكّراً إليه.

مسقط، 25 فبراير 2016

■ ■ ■

Me, God & Karl Marx

لم لا تبتسم الآن؟..
خبِرْتَها، خبِرْتَها هذه الحياة الحُلوة المُرَّة الحامضة المالحة
وأنت في المُنتصف تقريباً بين الخمسين والسِّتين
عدالةً لما انقضى، ولما تبقّى من وعود تغزلُ حَريرَها
في كهف الكُتب المُقدسة.

أمراضُك المُخلّدة بين الشهيق والزفير كافية
لتستشعر ريشة الفرق في جناحيك..
صدرُك المشقوق كقشرة سلطعون
على مائدة الطعام
كافٍ لتتذكر الأساطير التي تُتلى في المَجامِع
عن ساطور العمليات الجراحية.

إذًا تنفسْ بعدالة، وابتسِمْ الآن..
ترَ الله مُبتسِماً في وجهكَ التلميذ
مُبتسِمًا تراه
(دون أن يبوحَ بسِرِّ الأسرار)
في وجه الحَلّاج والشيخ ابن عَربي.

ألم يُخبروك أنه في يوم الدَّينونة
ابتسم في وجه كارل ماركس
وحيَّاهُ بحرارة؟..

مسقط، أكتوبر 2016

■ ■ ■

غريق الطابق الخامس

طوال إقامتي في الغرفة 517 في مستشفى بانكوك
كنتُ أسمع غرغرة غريق في الغرفة المجاورة..
لم أتمكن من معرفة السِّر، بيد أنها غرغرة غريق
في لجّة محيط تزداد ليلاً بعد الثامنة
كان يُجاورني في الغرفة الملاصقة، وكنتُ أسمع غرغرة غرقه
كما لو كان آخر الناجين من طوفان نوح
لم أسأل المُمرضات، زرقة أذيال أثوابهن عن السِّر
وفكرتُ في اختلاق حوار معه
فهو جاري في أحسن الأحوال وأسوئها..
كنتُ مُرقداً في انتظار عملية قسطرة تأجَّلت أكثر من مرَّة
بسبب ارتفاع درجة حرارتي فوق الـ37 مئوية.
الطبيب كان يُعطيني حبّة سحرية مُنوِّمة اعتقدتُ أنها سبب
هذياني بوجود غريق لا وجود له
بيد أننا -بفضيلة التخاطر- تواصلنا ذات ليلة وتحدثنا
عن سفينة نوح، التايتانيك وغريق غابرييل ماركيز الشهير
لدرجة أنه انفعل وقام من سريره ليطرق جدار غرفتي
بغرغرة غريق في لجّة المُحيط.

تفاهمنا بلغة المرضى
(دون أن تعرف المُمرّضات بما يحدث)
وأخبرني أنه في انتظار عزرائيل الذي يتراءى
له ولا يأتي لاصطحابه إلى الفردوس أو الجحيم بحجة انشغاله
باختطاف أرواح آخرين...
لأن الله تراجَع عن أولوياته المُلحّة وطلب من ملاك الموت
تقديماً وتأخيراً في قائمة إزهاق الأرواح.
فتلك مشيئته، مشيئة مَلِك الوجود - كما قال غريق
الطابق الخامس..

الغرغرة هي ذاتها غرغرة غريق لم ينجُ من التايتانيك
حاولتُ معرفة سِرّه الذي لم يُفصح عنه
بيد أن شعوري بأنه هالك لا محالة جعلني أستدرك
ما لا جدوى من استدراكه وإدراكه
لأن عزرائيل سيلتفت إلى كلينا حين يصل الطابق الخامس
(بحكم قُربى الغرفتين 517 و518)
وحتمًا لن نفلت من قبضته؛ فالله لا يغفل أبدًا ويُحصي
مواليده وموتاه بدقَّة صَيرفيّ حذق
فتلك تسليته الوحيدة -كما يبدو- في برزخ الوجود وعدَمِه.

■ ■ ■

بياض أسود في الغرفة رقم 8

"في غرف العمليات كان نِقابُ الأطباء أبيض، لونُ المعاطف أبيض، تاجُ الحكيمات أبيض، أردية الرّاهبات، المُلاءات، لونُ الأسرّة، أربطة الشاش والقطن، قرصُ المُنوِّم، أنبوبة المَصل، كوبُ اللبن.. كلُّ هذا يشيع بقلبي الوَهَنْ، كلّ هذا يذكِّرني بالكفن! فلماذا إذا مُتُّ يأتي المُعزون مُتشحين بشارات لون الحِدادْ؟.. هل لأنّ السّوادْ / هو لون النجاة من الموت؟ لونُ التميمة ضدّ الزمن؟
ضدّ منْ؟..
ومتى القلبُ -في الخفقان- اطمأن".

■ ■ ■

أمل دنقل

تأمَّلْ وزمِّلْ بياض عظامِك في الكفنِ المُضمحِلِّ تُراباً
ولا تقلقنّ عزيزي أمَلْ!
فقلبي اطمأنّ أخيراً وما مَلَّ في هدأةِ الخفقان المُزاح من الظنِّ، من نِحلةِ الشّك في الشمسِ والظِّلِّ، تاج الحَكيمات، قرص المُنوِّم، خشخشة السَّيد الموت، موت الحياةِ وصَوت الأملْ..
ليس في المعهد القومي للأورام
بل هنا في مستشفى بانكوك
الذي ربما لم تسمع به.

قرأتكَ وترنمتُ بقصائدك وأنت على قيد الحياة
حين اعتقد كثيرون أنك امرأة..
رغم أنك دون سِواك
"سيد الرِّجالة" -كما تترنّمون بفخر- أيها الجنوبي الحُرّ..

حين كنتُ على وشك الموت في مستشفى جامعة السُّلطان قابوس استعدت تجربة الموت في "أوراق الغرفة 8". إعجابي في مراهقة الشعر بقصيدتك "الخيول" و"البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" و"زهور" أعاد إليَّ بنفسجة الأمل بعد 30 سنة..

هل تُصدِّق؟..
لديّ جارٌ غريق في الطابق الخامس هنا في مستشفى بانكوك
حدثته عنك، عن خيولك المُجنحة عابرة محيطات السَّماء
عن مُوبي ديك
(حُوت هِرمان مِلڤل الأبيض)
وقصة ماركيز:
أجمل رجل غريق في العالَم..
جاري هذا كان مُستغرقاً في سرنمة الغرق..
وحين قرأت عليه -بلغة التخاطر- قصيدتك المُقتبسة أعلاه
بكى، وتمنى لو يأتيه عزرائيل مبكِّراً
لأن أربطة الشّاش والقُطن أبيضان دائماً
حتى في مستشفى بانكوك..

"عِمْ صباحاً أيها الصقرُ المُجنّح
عِمْ صباحاً..
سنةٌ تمضي، وأخرى سوف تأتي
فمتى يُقبلُ موتي؟
قبل أن أصبحَ -مثل الصقر- صقراً مُستباحاً؟.."

البياض شيخُ سَواده اللاحق في كوب الحليب
حين تمتزجُ الألوان في عيني غريق الطابق الخامس
مثل عيني دلفين يُفكر في القفز من بحيرة المستشفى
لمتابعة الرسوم المُتحركة في تلفزيون الطابق الخامس
فالغريق والدّلفين كيف يتفاهمان في مُحيط الغرق..

لا أصعب من استباحة عُنفوان صقر جنوبيٍّ مُجنّح
لا أصعب من ذلك..
مثلك استُبيح جسدي في مسقط؛ وخبرتُ البياض
في لون معاطف الأطباء
وكمَّاماتهم وقفازات أيديهم التي تحميهم من قطرة دمٍ
مُلوَّثةٍ بالحياة.
بيد أنني عِشتُ، وها أنا ذا أيُّها الصَّقر المُجنح
أنجو بفضل كلمات تحقنُ تحت لساني لذاذة البلاغة والتّوريَة
علّها تُوجِّل رحيلي ولو إلى حين.

بانكوك 2016

■ ■ ■

إبهام التّيتانيوم

السيدة الريفية الأربعينية التي اكتُشِف ورمٌ في إبهامها لم تخسر حياتها عبثاً حين قرر الأطباء التايلنديون تعويضه برُقاقة من معدن التيتانيوم في عملية جراحية تُجرى لأول مرة في العالم.

نجحت العملية واعتُبرت إنجازاً وطنياً
للمؤسسة الطبية في تايلند.

هذا ما قرأته اليوم في صحيفة البانكوك پُوسْت..
فقد تمكنت السيدة ليس من تحريك إبهامها، بل كتابة قائمة مشترياتها
اليومية مستخدمة إبهامها التّيتانيّ الجديد
وتعطيها طفلتها الصغيرة لتجلب احتياجاتها من دكان القرية
قبل اختيارها دجاجةً من القُنّ
لتكون وليمة الغداء.

ومن يدري؟..
قد تبدأ بقراءة أنطون تشيخوف لتحاكيه في قصصها الأولى
حين يهبط عليها إلهام فضائيّ لتكتب قصائد شعر وقصصًا قصيرة
تُبرعِم الرّيف البديع وسُكونه
حين تكون السماء أصفى من عين ديك دجاجاتها السَّبع
لتتمكن من متابعة حركة القمر من بيتها المحاط بمزرعة
أرز تكفي احتياجات أسرتها الفقيرة.

ومن يدري؟..
قد تحلم في إحدى الليالي المُقمرة برحلة إلى
سطح القمر بمعيّة زوجها المُعاق
إن وجدت منظمة تتكفل بمصاريف الرحلة الفضائية احتفاءً
بمعدن التيتانيوم المُستخدَم في مركبات الفضاء قبل استخدامه
لأول مرة لتقويم إبهامها!

أحد الصحافيين حاول مساعدتها لنشر
قصص قصيرة عن مجتمعها المحلّي في الملاحق الأدبية
بعد شهرة إبهامها في الأرياف
لكنها رفضت العرض الأدبيّ الباذخ، واكتفت بشراء المزيد
من قصص تشيخوف المُترجمة وكتابة قصص أضحت
تكتبها بيدها وتنشرها في صحيفةٍ محليَّةٍ مغمورة.

بانكوك، 17 فبراير 2016

دلالات
المساهمون