يورغن هابرماس في عيد ميلاده التسعين: المثقف في الديمقراطية

27 يونيو 2019
(هابرماس خلال تسلمه "جائزة إراسموس" بأمستردام، 2013، جيري لامبن)
+ الخط -

لن يعدم المتابع لوسائل الإعلام الألمانية، هذه الأيام، أن يلتقي، في كل صحيفة يقرأها، بمقال عن الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (1929)، وذلك لمناسبة عيد ميلاده التسعين، بل ولن يعدم برامج مختلفة عنه في وسائل الإعلام، المسموعة خصوصاً.

لا ريب أنّنا أمام فيلسوف يستحقّ الاحتفاء لأسباب كثيرة، ليس أقلّها فلسفته نفسها، حتّى وإن رفضنا أو وقفنا موقف المتشكّك من روحها الكانطية. تتجلّى تلك الروح، خصوصاً، في ثقتها العمياء بعمل العقل وبقدرة الحداثة والتنوير على التصحيح الذاتي، أو تصوّرها عن التواصل كإجماع وليس كصراع، وإيمانها بتحقيق مواطنة عالمية دون تجاوز للنظام الرأسمالي الذي يحول في رأي آخرين دون تحقُّق مثل هذه المواطنة، أو حتى بوطنيته الدستورية التي يعتبرها بعضهم فكرة نخبوية لا يجري دم في عروقها.

على الرغم من كل ذلك، لا يمكننا إلّا أن نحتفي، كعرب أيضاً، بهذا الفيلسوف، وبعطائه المستمرّ حتى اليوم، وفي هذه السن؛ وهو الذي سيصدر له كتاب جديد حول العلاقة بين الدين والعقل، يسلّط فيه الضوء على جانب آخر من فلسفته.

لم يتوقّف هابرماس عن التدخل في الشأن العام الألماني والأوروبي والعالمي. وكثيرٌ منّا يذكر موقفه النقدي والصارم من الحكومة الألمانية في شخص وزير داخليتها دي ميزيير، ورؤية الحكومة لمسألة إدماج المهاجرين، والتي تقوم على ما يُسمّى بالثقافة الرائدة. انتقد الفيلسوف الألماني هذه الرؤية في أكثر من كتاب ومحاضرة ولقاء صحافي، كما في كتابيه "إشراك الآخر" و"آخ.. أوروبا".

ولا يقلّ تدخّله في الشأن الأوروبي التزاماً، وهو الذي ظلّ يدافع عن فكرة "أوروبا للشعوب" وعن أوروبا قوية بديمقراطيتها وروحها النقدية، كما في كتابه "عن دستور أوروبا". وسيتجاوز حضوره النقدي أوروبا لينتقد السياسة الأميركية مثلاً، وخصوصاً حربها على ما يُسمّى الإرهاب، ويطالب رفقة جاك دريدا بأوروبا حرّة وقوية (كما في كتاب "الفلسفة في زمن الإرهاب: حوارات مع يورغن هابرمايس وجاك دريدا"، صدرت ترجمته عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، 2013).

ظلّ هابرماس مؤمناً بحاجة الديمقراطية إلى رأي عام قوي من شأنه أن يواجه القواعد النفعية التي تريد المؤسّسات الاقتصادية فرضها على المجتمع، ويواجه عبر ذلك أيضاً ثقافتها الاستهلاكية، التي تهدّد برأيه تحقيق إجماع عقلاني ـ نقدي. بقي ينافح، دائماً، عن فكرة أن الخطاب المجتمعي الذي يقوم على تواصل عقلاني، سيقود إلى تحوّل ذاتي للمجتمع، يحرّره من القهر والاستلاب والأدلجة ويقود إلى إجماع حرّ وعقلاني بين شركاء متساوين، ويقطع الطريق على المحاولات التي تبغي فرض قواعد تخدم الصالح الخاص وليس الصالح العام، أو ما يسمّيه "استعمار عالم الحياة".

ولا ريب أنه في كل مجتمع تختفي منه الأصوات النقدية ويضمر فيه دور المجتمع المدني، بل ويموت فيه رئيس انتُخب بشكل ديمقراطي، بسبب التعذيب والسجن، أو يُلقى بمناضليه وشبابه في غياهب السجون لمجرّد أنهم طالبوا بحقوقهم الأساسية من حرية وعدالة وصحّة وتعليم، لا يمكننا الحديث عن استعمار عالم الحياة فقط، بل لربما نحن أمام استعمار لعالم الحياة والموت، والاستعمار لا يعوّض قواعد سياسية بأخرى اقتصادية، بل يدمّر كلّ إمكانية للقواعد. يتجلى ذلك لا ريب اليوم في صعود قوي للقبلية والطائفية وظهور ما يمكن أن نسميه بالفئات المفترسة التي تتعامل مع الوطن ومقدراته بمنطق الغنيمة.

لقد فكّر هابرماس، وما زال، في ظلّ مجتمع عقلاني ونظام سياسي ديمقراطي، وفي ظل حضور قوي ونشط للمجتمع المدني، وهو لا ريب نموذج للمثقّف في الديمقراطية. ولكن هل يمكن له أن يقول شيئاً لنا، نحن الذين نعيش في مجتمعات تغيب عنها العقلانية وتعاني الأمرّين من نير الاستبداد وانتشار التخلُّف والجهل والتجهيل الممنهجَين؟ هل يمكننا أن نتحدّث عن تواصل عقلاني، في ظل مجتمعات تحكمها خطاطة الحاكم والرعية؟ مجتمعات محاصَرة داخلياً بالاستبداد وخارجياً بالنيوكولونيالية؟

نعم إننا نحتاج للالتزام نفسه بالقضايا العادلة للإنسانية كما عبّر عنه هابرماس في أكثر من موقف، وإن كان بشكل أقلّ بكثير من موقف فيلسوف مثل سارتر، ربما بسبب إيمانه شبه الديني بالعقل، ولكن تحليل واقعنا العربي وتجاوز تحليله إلى مجابهته يحتاج إلى جهاز مفاهيمي من نوع آخر. ولعلّنا لا نبالغ إن قلنا إنّ هذا السياق يحتاج إلى نوع من الماركسية النقدية، كما تتجلّى أحياناً في كتابات سمير أمين.

نقول ذلك، حتى وإن كنا سنلتقي مع هابرماس في العديد من تحليلاته ومواقفه، مثل موقفه من قضية الإرهاب مثلاً ومطالبته أوروبا بمراجعة نتائج العولمة الرأسمالية الكارثية على بلدان الجنوب وتأكيده أن السياسة الأميركية، في ما يتعلق بمشكلة الإرهاب، لا تحارب إلا أعراض المرض وتصمت عن أسبابه، معتمدةً الحلّ العسكري فقط، وهي لا ريب عبر ذلك، وهذا ما توجّب أن نضيفه إلى كلام هابرماس، تفرض الحل العسكري على حلفائها أيضاً في أوروبا والعالم العربي في مواجهة ظاهرة "الإرهاب"، إذ ليس من مصلحتها أن تُبرز سياسات تطالب بمعالجة أسباب الظاهرة، والمتمثّلة خصوصاً في الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي.

كلّنا يذكر مثلاً الانتقادات التي وجّهها نائبا رئيس الوزراء الإيطالي، ماتيو سالفيني ولويجي دي مايو، بداية العام الجاري، للسياسة الفرنسية في أفريقيا، أو ما يُسمّى في الأدبيات السياسية بالميثاق الكولونيالي، باعتبارها مسؤولة عن إفقار أفريقيا وتدفُّق اللاجئين منها. وما يستحق التحية أيضاً في موقف هابرماس هو رفضه القاطع لأيديولوجيا صراع الحضارات، والتي أصبحت تشكّل الوعي الغربي ما بعد النقدي، معتبراً أن انهيار التواصل الدولي يعود إلى أسباب اقتصادية وليس إلى اختلافات ثقافية، وأن أيديولوجيا صراع الحضارات تهدف فقط إلى التغطية على المصالح المادية للغرب.

لربما يكون رفض هابرماس للموقف الثقافوي نقطة البداية التي يجب أن ننطلق منها، وهو موقفٌ تُجمع عليه كل التيارات النقدية باختلاف مشاربها في الثقافة الغربية، من "نظرية نقدية" و"سوسيولوجيا نقدية" و"ماركسية أوروبية" و"نظرية فرنسية"... ننطلق من نقد الموقف الثقافوي، لأنه يحكم طريقة تفكيرنا في السياق العربي إلى حد كبير؛ إذ تنتشر عندنا أفكار من قبيل أن صراعنا مع الغرب هو صراع ثقافي، وأن هويتنا هي دينية ودينية فحسب، وأن تغيير الواقع يمرّ عبر العودة إلى الأصول أو عبر تجاوزها. وقليلٌ منّا من يتمتّع بحس تاريخي، ويشتبك مع الباثولوجيات السياسية وتبعاتها الاجتماعية والاقتصادية، وإن فعل ذلك، غالباً ما نسيء فهمه، إذا لم نعتبره عدوّاً لهويتنا.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضائل الفضاء العمومي
في 18 يونيو/حزيران الجاري، بلغ هابرماس عامه التسعين، وهو أسبوع شهد ظهور وجهه على غلاف أكثر من مجلة مختصّصة في الفكر وغير متخصّصة. وعلى أهمّية الفيلسوف الألماني، فإن الأمر يعدّ مفاجأة لطيفة من المؤسسات الإعلامية حين تحتفي بمفكّر كما تفعل مع نجم سينمائي أو موسيقيٍّ محبوب. لماذا هابرماس بالذات؟ ربّما لأنه قدّم فكراً متفائلاً لم يألُ جهداً في تبسيطه للناس، وربما أيضاً لإيمانه بفضائل الفضاء العمومي.

المساهمون