عبد اللطيف عقل ما زال يرحل

26 اغسطس 2014
+ الخط -

تُقرأ مسيرة الشاعر الفلسطيني الراحل عبد اللطيف عقل حسب دلالة التوقيت الذي اختاره للرحيل عن الحياة، فمغادرته التي جاءت قبل توقيع إعلان "اتفاقات أوسلو" لـ"السلام" بشهر تقريباً، في 26 آب/ أغسطس 1993، جاءت على شكل انتحار احتجاجي غير معلنٍ لرجلٍ عاش بوهيمياً على طريقته، وظل رافضاً لكل شيء، كما ظلّ مرفوضاً من المدينة والريف اللذين لم يستطع الانتماء لأيّ منهما.

تقول سيرته إنه شاعر فلسطيني ولد عام 1941 في قرية دير إستيا قرب نابلس، ودرس في دمشق وتخرّج منها بدرجة البكالوريوس في الآداب عام 1966، وله محطات في بيروت الستينيات، قبل أن يلتحق ببرنامج للدراسات العليا في أمريكا متخصصاً في علم النفس. ويعود بعدها إلى فلسطين أستاذاً جامعياًَ ومساهماً قوياً في حياتها الثقافية. كتب عنه المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري، دون أن يلتفت أحد في فلسطين إلى إنتاجه بشكل جاد، إلا بعد إحدى وعشرين سنة على رحيله، حيث طُبعت هذا العام أعماله الكاملة، إضافة الى كتاب ضم الحوارات التي أجريت معه، بالتعاون بين "اتحاد الكتاب" و"جامعة النجاح الوطنية" التي تولى فيها عمادة البحث العلمي.

لا تُفهم تجربة عقل  الشعرية والثقافية دون أن ننتبه إلى مكوناتها الأساسية، وهي مفردات الريف التي ظلت حاضرة في شعره، إضافة إلى مشكلات المدينة ومكوناتها التي عبّر عنها من خلال الخلفية الاجتماعية والبيئة التي تربى وعاش فيها مدفوعاً براديكالية نابلس وحجابها، مترافقاً مع عيشه اليومي للصراع مع الاحتلال. كل تلك الأشياء شكّلت شعرية عقل الذي لم يكن مشغولاً بتطوير أدواته الشعرية بمقدار ما كان مشغولاً باليومي الفلسطيني، والتعبير عنه. فالمخيم والمدينة حاضران بقوّة لديه، لكنّ الريف ظل يحرك الشاعر فيه ويقود مركبه في الكتابة، ربما لأنه عرف الأخير قبل أن يطاله زمن الاحتلال وغطرسته.

على هذا يبدو السؤال عن مشروعه الشعري ومراحل تطوره مثار استغراب، خاصة أن صاحب "الحسن بن زريق ما زال يرحل" يمتلك خلفية معرفية كبيرة، إضافة إلى تكوينه الأكاديمي، وهو ما يمكنه من اجتراح الجديد، أو على الأقل القيام بالتجريب مثلما فعل أقرانه وأبناء جيله المعروفون. لكنّ عقل في هذا لا يختلف عن شعراء نابلس الذين جاؤوا بعده إلى الشعر، دون أن يمتلكوا مشروعاً حقيقياً، أو رؤية تُدخل الكتابة الشعرية في سياق إنتاج مفارق ومختلف.

لم تشغله أسئلة الحداثة الشعرية وما بعدها، فهي بالنسبة إليه ترفٌ زائدٌ عن الحاجة في ظل وجود الاحتلال، إذ ما قيمة المدينة وفكرتها في اللحظة الذي يتعرض فيها كل شيء للمصادرة بفعل قوة أخرى لا علاقة له بها؛ ولهذا توقف عندها دون أن يقصد معاني أخرى غير ما تقدّمه حياته، بمعنى أن اللاوعي كان هو الذي يتحكم في ردود فعله الإبداعية، أثناء الكتابة وبعدها، ووفق منظوراته التي آمن بها، فالتجريب عنده يقع في الهامشي، أما المتن فكان خاضعاً لسلطة الموروث.

على هذا نقرأ آخر مجموعاته الشعرية "بيان العار والرجوع"، بوصفها تتويجاً لمسيرته الشعرية والثقافية. فعقل، شاعراً وأكاديمياً، عايش كابوسي النكبة والنكسة، إضافة إلى الانتفاضات التي شهدتها فلسطين. والمجموعة المذكورة ترسم صورة واضحة عن الشاعر والإنسان الذي عاش هامشيّاً رغم أنه شغل مراكز متقدمة في "جامعة النجاح"، وغاضباً لأنه لم يستطع التعامل مع الحداثة إلا من باب العلوم النظرية فحسب.

كان عقل عاجزاً تماماً عن الفعل، رغم أنه على درجة عالية من الوعي، وبسبب هذا الصراع الداخلي لم يتمكن من الخروج  بأدواته إلى النجاة، بل ظلّ ينوس على الحواف، مع الاحتلال من جهة، وقيم الحداثة والأصالة من جهة أخرى. ذلك هو خطأ الشاعر.

المساهمون