محمد مشبال.. ناقد بأدوات زمانين

28 مايو 2015
مشبال في بورتريه لـ جنان داوود
+ الخط -

إذا أردنا أن نصنّف النقد الأدبي الجاري ممارسته في المغرب منذ عقود وحتى الآن، ومساءلة أقسامه الكبرى، سنجد قسماً يستند في خلفياته إلى المناهج النقدية الحديثة المتأثرة بالنظريات الغربية ويردّد مفاهيمها، ونقد آخر يستمد آلياته من التراث النقدي والبلاغي العربي القديم. وهي ظاهرة يصفها الناقد محمد مشبال بـ"الثنائية الضدية، وبوصفها ثنائية ضدية، فهي ليست سوى مظهر من مظاهر الصراع الإيديولوجي الذي عرفته الثقافة العربية منذ عصر النهضة، وما زال مستمراً ـ للأسف الشديد ـ حتى الآن".

غير أن المشروع النقدي الخاص بمشبال بعيد عن أن يُصنّف بشكل متحيّز لأحد القسمين. عن ذلك يقول في حديثه لـ"العربي الجديد"، إن تجربته النقدية لم تعرف هذه الثنائية، مبيّناً "في دراساتي تتجاور أسماء أعلام التراث من قبيل عبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني وغيرهما بجانب أسماء أعلام النقد والبلاغة المعاصرين من قبيل باختين وبرلمان ورولان بارت وغيرهم. لا يمكننا أن نعيش إلا في اللحظة الزمنية التي نوجد فيها؛ ولكن هذه اللحظة هي سيرورة تمتد في الماضي وتتجه نحو المستقبل".

ويوضّح "بناءً عليه، لا يمكننا أن نكون أرسطيين أو جرجانيين إلا بمعنى أننا نستلهم أفكارهما أو نبعث أفكارهما في سياق جديد. باختصار، لا يمكنني إلا أن أكون مُشاكلاً للزمن الذي أعيش فيه؛ وهذا الزمن هو سيرورة تاريخية تُسهم فيها أصوات إنسانية من كل العصور والأصقاع".

منذ أول كتبه "مقولات بلاغية في تحليل الشعر" (1993)، اتضحت ملامح مشروع نقدي يتحرك داخل البلاغة العربية ويستمد مفاهيمه النقدية منها، المسار الذي تعزز أكثر من خلال مؤلفات أخرى كـ"الصورة في الرواية" (1995)، و"بلاغة النادرة" (1997)، و"أسرار النقد" (2002)، و"البلاغة والأصول" (2007)، إضافة إلى المحاضرات والمساقات المتخصصة في بلاغة النص النثري والتي يشرف عليها مشبال في جامعة عبد المالك السعدي، عن هذا الانهماك يقول:

"إنّ ما شغلني منذ البداية هو السعي إلى استثمار ما ينطوي عليه المنجز البلاغي العربي والإنساني من أدوات ومفاهيم ومبادئ في سياق تحليل أو تأويل أنواع من الخطاب الأدبي من شعر ورواية ونادرة ورسالة وخطابة... لقد شرعت أفكر في الأمر بطريقة بسيطة وبريئة؛ تساءلت في خضم ما كنّا نعيشه من فورة المناهج التي غزت عقولنا في فترة الثمانينيات: لماذا لا تحظى البلاغة بما تحظى به هذه الحقول التي تفتننا ونبذل كل ما في وسعنا من جهد لاستنباتها في ثقافتنا العربية المعاصرة؟ لماذا لا تنافس البلاغة البنيوية والأسلوبية والسرديات والسيميائيات ونظرية التلقي وغيرها من الحقول والمناهج؟".

ويضيف: "لقد ورثنا عن البلاغة العربية رصيداً هائلاً من المفاهيم التي تسعف في تعيين بلاغية الخطاب، على نحو ما ورثنا رصيداً غنياً من التأويلات البلاغية للخطاب سواء أتعلّق الأمر بالشعر أم بالقرآن؛ فلماذا لا نستثمر هذا الرصيد ونعيد صياغته في سياق توجيهه نحو تحليل النصوص والخطابات بأنواعها وأزمنتها المختلفة؟".

كان هذا منطلقاً لمشروع بلاغي شغل مشبال بغضّ النظر عن المشروعات البلاغية لأساتذته في المغرب أو مصر، حسبما يقول مبيّناً: "المشتغلون بالبلاغة في ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة يشتركون في همّ الدفاع عن هذا العلم وخلق التفكير في مجاله (الانشغال بالاستعارة والبديع والصورة مثلاً)، ولكنهم يختلفون بعد ذلك في طبيعة الإشكالات البلاغية التي يثيرونها والاستراتيجيات التي يرومونها. فإذا كنت ألتقي مع محمد العمري ومحمد الولي في أننا جميعاً نفكر من خلال أدوات البلاغة وأسئلتها، فإنني وجّهت انشغالي منذ البداية إلى التفكير في استثمار البلاغة العربية والإنسانية في أفق أن تصير ممارسة تحليلية وتأويلية للنصوص والخطابات؛ على هذا النحو شرعتُ في إنجاز دراسات وترجمات تسهم في تأصيل هذا الوعي".

قبل أن يقيّم صاحب "الهوى المصري" العمل النقدي ودور الناقد اليوم، يختار كلماته بعناية قائلاً: "لا يمكن أن ندّعي أن هناك حركة نقدية في الثقافة العربية؛ فالناقد الأدبي تقلّص دوره وتراجع صوته في العقود الأخيرة لأسباب عدة؛ من بينها أنه لم يعد هناك نقاد متفرغون للعمل النقدي في مؤسسات إعلامية، كما أن المزاج الأدبي العام لم يعد مرحّباً بالنقد في بعده التقييمي، دون أن ننسى انحسار دائرة قراء النقد لغياب نقاد كبار قادرين على اجتذاب القراء وإثارة فضولهم النقدي".

يضطلع النقد الأكاديمي بوظيفته في التنظير والممارسة النقدية وتكوين جيل من الكتّاب والنقاد داخل الجامعة، مهمة ربما تجعل دوره في مسايرة العملية الإبداعية ونقدها محدوداً، وعن ذلك يقول مشبال:

"ليس من وظيفة الباحث الأكاديمي الانخراط في ممارسة نقدية نشيطة يتتبع فيها الأعمال الإبداعية التي تصدر بوتيرة سريعة، دون أن يعني ذلك أنه لا ينبغي أن يمارس النقد في الصحف ومناسبات تقديم الأعمال في الفضاء العام، ولكن لهذه الممارسة شروط لا يمكن أن يخضع لها الباحث الأكاديمي الرصين الذي يُفترض فيه بناء المعرفة النقدية وتعميق أدوات التفسير والتأويل، وبناءً على ذلك فاضطلاعه بهذه المهمّة يظل أمراً طارئاً لا يشكّل جزءاً أصيلاً في وظيفته".

ويرى أيضاً أن الممارسة النقدية ينبغي أن يتصدى لها نقاد لا يشغلهم البحث العلمي الأكاديمي بشروطه في التأليف والتأطير. ومع ذلك فهذا لا يعني أن الباحث الأكاديمي لا يتطرق لأعمال معاصرة له، ولكن تطرقه لها هو من باب وظيفته التعليمية أو العلمية الخاصة. أما الناقد فوظيفته اجتماعية بالأساس؛ إنه يساعد القرّاء على تذوق الأعمال الأدبية وفهمها، وينبّههم إلى قيمتها.

وعن مهمة الناقد في علاقته بالنص، يقول: "لكل ناقد مرجعية ثقافية وعلمية توجّه قراءته وتحليله للعمل الذي يتصدى لقراءته؛ واختلاف المرجعيات وتنوعها لا يمكن إلا أن يعود بالخير على الأعمال الأدبية؛ فالعمل الأدبي الجيد يصمد للقراءات المختلفة، ويفسح المجال لتعدّد المنظورات والمقاربات. وأنا في هذه الحال لا أتحدث عن النقد بوصفه ممارسة تقييمية للعمل الأدبي بالضرورة، بل أقصد النقد بوصفه ممارسة تأويلية تتخذ العمل الأدبي موضوعاً للتأمل وبناء الأفكار وصياغة المفاهيم".

يعتبر محمد مشبال أن النقد ليس بالضرورة حُكماً، بل هو ممارسة فكرية من خلال النصوص، ونحن بحاجة لهما معاً. فالناقد الأدبي الذي يُقيّم الأعمال له دوره في الحياة الأدبية والاجتماعية، والناقد الذي يمارس التأويل وبناء الأفكار لا يمكن الاستغناء عنه، وكلاهما يحتاج إلى الآخر.

المساهمون