"الذات بين الوجود والإيجاد": محاولة خارج ثقافة الندرة

01 أكتوبر 2019
(حمّيش في برنامج "فسحة فكر"، تلفزيون العربي)
+ الخط -

سقراط، الغزالي، مونتاني، روسو، نيتشه؛ يحضر هؤلاء وآخرون في عمل بعنوان "الذات بين الوجود والإيجاد" (المركز الثقافي للكتاب، 2019) للكاتب المغربي بنسالم حمّيش (1948)، حيث يذكرهم تصريحاً في مقدّمته جاعلاً منهم معالم طريق ضمن منهجية يجتهد في اجتراحها وهو يتصدّى لتمرين أن "يتّخذ (الكاتب) نفسه مادة لكتابته"، أو ما درجت تسميته بالسيرة الذاتية.

غير أن كتاب حمّيش لم يتّخذ لعمله بنية سردية، متواصلة أو متقطّعة، مثل متداول الكتابة في هذا المضمار، بل استعار من الثقافة الغربية نمطاً مخصوصاً، هو جنس المحاولة، بما هو "مزج شيّق بين القص والمقالة"، حيث يعود إلى مؤسّسه الفرنسي ميشال دي مونتاني (القرن السادس عشر) مصرّحاً بأنه سيقتدي بنهجه ما استطاع، فيقول: "إنني لن أعالج موضوعاتي إلا وأنا ملتبس بها ومنضوٍ فيها"، وكانت تلك إضافة أتاحها هذا الجنس لإنهاء الخصومة/ القطيعة بين ما هو ذاتي وما هو فكري.

منذ الفصل الأول الذي حمل عنوان "قطع حياتية"، نتابع رحلة المؤلف في مسار جعل محطّاته قضايا فكرية وأدبية ولغوية. ولعلّنا منذ عتبة الفهرس، نرى كيف أن حمّيش يصنع صورة نفسه باعتبارها نتاج هذه التقاطعات حيث قسّم عمله إلى مجموعة فضاءات تبلورت داخلها ذاتُه، وتطوّرت ضمن عمليات الاشتباك المتواصل مع هذه القضية أو تلك، وهي هندسة تمكّننا من الانتقال ضمن خط حياة بشرية من الاستشراق إلى الماركسية، ومن الرواية التاريخية إلى قضايا الهيمنة اللغوية أو الفساد، وغير ذلك من المواضيع والحكايات، مع تأكيده المتكرر أن هذا التقسيم يفترض أن يكون تركيباً لـ"أوعية متواصلة يفضي بعضها إلى بعض"، وهو ما نلمسه فعلاً داخل النص.

وإذا كان حضور مونتاني بارزاً في استعارة الجنس الذي كتب ضمنه (مع ما ينبغي أن نلاحظه من اختلافات شكلانية بسبب المسافة التي قطعتها المحاولة خلال بضعة قرون)، فإن حضور نيتشه يبدو بارزاً في فصل بعنوان "أوجد في فضائي فكرياً"، إذ ينتهج المؤلف خطة الفيلسوف الألماني في كتاب "هذا هو الإنسان" ليعيد تركيب مشهد مؤلفاته والهواجس التي اخترقتها. هنا يشرح حمّيش خياره في التخصّص في الفلسفة، قبل الانفتاح باتجاه الرواية والشعر ومشاغل أخرى.

يقارب صاحب "كتاب الجرح والحكمة" الفكر الفلسفي باعتباره "طاقة إيجادية متجددة تُطلب بها الحقائق والدلالات"، ويَنظُر إلى الفيلسوف كونه "الفاعل المحنّك في إلحاق الجزء بالكل والشيء بمفهومه، والمتمرّن أكثر من غيره على إبداع المقولات ونحتها".

لو رسمنا خطاً افتراضياً بين هذا التصوّر الذي وضعته الذات وما ستجده في طريقها سنفسّر عدداً من خيارات حمّيش ومنها التوجّه نحو الرواية، كإطار ثقافي بات محسوباً عليه أكثر من انشغاله التخصّصي في الفلسفة، فقد أحدث المسار الذي اتخذته حياته قطائع عديدة مع الفلسفة بداية بالضيق من النزعة الاختزالية التي تفرضها الأنساق بحيث باتت "تحشر الحياة في منظومات"، وصولاً إلى تحوّل الفلسفة إلى ضرب من "الممارسات النرجسية" القائمة على "التشدّق المفاهيمي"، ولا سبيل للفكاك من ذلك سوى الاقتداء بـ بورخيس بالتنقيب مثله عن "الإمكانات الأدبية لنظريات فلسفية أو ثيولوجية"، وهو ما يفضي به إلى تعريج فرعي نحو "الرافد التراثي – التاريخي" الذي كان الأرضية التي ابتنى عليها حمّيش الجزء الأكبر من مدوّنته، وكان في جنس الرواية، وكان هنا مثل جغرافي يتناول منطقة فيحلّل خصوصيات تضاريسها ومعمارها.

وعلى عكس المتوقّع، نجد أن النبرة التأملية، وحتى النقدية، كانت أعلى في هذا الفصل أكثر من غيرها، حيث بدا أن الانتقال من الذاتي إلى العام أيسر في هذا السياق، فأعمال مثل "العلّامة" (حول ابن خلدون)، و"مجنون الحكم" (الحاكم بأمر الله الفاطمي) و"هذا الأندلسي" (ابن سبعين) قد فرضت على صاحبها الغوص في انشغالات فكرية وسياسية واجتماعية لم يكن ليتجه صوبها لو تناولها من زاوية العلم والفكر المنهجي. ولعل من أرشق الاستنتاجات التي بلغها حمّيش في هذا الفصل قوله: "إن وسطنا الثقافي العربي عامة ينزع قبلياً إلى رفض تنوّع الانشغالات والمواهب عند الكاتب الواحد، ويعمل بالشح والتقتير أي بمنطق ما يمكن تسميته ثقافة الندرة".

إذا علمنا أن هذا الكتاب سيرة ذاتية (وهو ما لا يصرّح به الغلاف، ولا يصرّح في الحقيقة بأي تحديد أجناسي)، فمن المتوقع أن ينتظر القارئ إضاءات حول نقاط ظهر فيها حمّيش في الفضاء العام، وأبرزها توليه وزارة الثقافة في المغرب. لا يخيّب حمّيش ظنّ هذا القارئ، حيث يخصّص فصلاً بعنوان "حين حملت حقيبة الثقافة"، غير أننا لن نعثر على كثير من التفاصيل التي يمكن أن ننتظرها من ممارسة هذه التجربة، حيث نجد قراءة عامة من سبع صفحات تقريباً، حافلة بالتساؤلات عما يمكن أن يفعله وزير للثقافة اليوم في المغرب، أو في أي بلد عربي آخر، مع "ميزانية هزيلة وكثرة الأذرع المكسورة والموظفين الأشباح".

هنا، يقع الكتاب في مطبّ كثيراً ما وقعت فيه كتابات السيرة الذاتية العربية، فكلما اقتربت من تناول الواقعي الملموس كانت الكتابة فضفاضة، وهي مسألة قد لا يحمل الكتّاب وزرها بقدر ما يفسّر ذلك مجمل الفضاء العربي بما يختزنه من حساسيات وحسابات وإحراجات. في المقابل، يُحسب للعمل أنه لم يقع في مطبات أخرى مثل تمجيد الذات أو تطويع الحقائق التاريخية لأهداف بعينها، وتبقى فائدته في بناء جانب من مشهد إشكاليات الثقافة العربية انطلاقاً من رؤية ذاتية تعترف بنسبيّتها.

دلالات
المساهمون