خرائط المعرفة وتحوّلاتها: أثر الفيروس

24 مايو 2020
تجهيز لـ آي ويوي
+ الخط -

نسبيّة أينشتاين، أثر الفراشة، نظرية الفوضى، البجعة السوداء؛ هي أسماء مقاربات علمية وفكرية تشير إلى الأثر الذي يتركه تغيير عنصر على مجمل النظام العام للأشياء. من النادر أن تجد هذه النظريات وضعية تلامس شرائح موسعة من الناس بشكل مباشر أو أن تتجسّم أمامهم ويتمثّلونها دون أية عُدّة نظرية لعلم من العلوم.

ها أن كوفيد-19 فعل ذلك وفرض تغيّرات جمة على العالم، من أسلوب الحياة الفردية إلى السياسات الدولية. بعض هذه التغيّرات التي فرضها نجد أثرها في خرائط المجالات المعرفية حيث بدأنا نلمس طلباً متزيداً على مجالات دون أخرى لفهم ما حدث ومحاولة توقّع ما سيحدث، الأمر الذي قد يُلقي بظلاله على توجّهات النشر والبرامج البحثية. هنا عدد من الحقول المعرفية التي من المنتظر أن تشهد ديناميكية في السنوات المقبلة، ومن نافل القول الإشارةُ إلى أن كل واحد من هذه المجالات له في العربية مكتبة لا تزال فقيرة.


الفكر الإيكولوجي

أن تكون جائحة كورونا "رد فعل" من الطبيعة ليس أكثر من فرضية من بين فرضيات متعددة في تفسير نشأة الفيروس وانتشاره الكوكبي السريع. لكن ذلك كان سبباً كافياً للالتفات بقوة إلى الفكر الإيكولوجي باعتبار أن مدوّنته تمثّل متابعة متراكمة حول اختلال العلاقة بين الإنسان والعالم منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

 

هذا الالتفات يمضي في اتجاهين متوازيين؛ الأول عبر العودة إلى تراث آباء الفكر الإيكولوجي مثل عالم الأحياء الألماني إرنست هاكل ولكاتب الأميركي هنري دافيد ثورو وصولاً إلى المفكر النرويجي آرنه ناس.

أما التوجّه الثاني فهو تسليط الضوء على مفكّرين معاصرين تبدو إشكاليات زمن كورونا وقد أشارت إلى صوابية مواقفهم، ومنهم عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران، والباحث الأسترالي غلين ألبريشت، والكاتب والمهندس الزراعي الجزائري الفرنسي بيار رابحي. صعود "نجومية" هؤلاء يتيح تداولاً أوسع لمفاهيم الفكر الإيكولوجي وتجذير الوعي بقضاياه.


الجغرافيا السياسية

بدأ فيروس كورونا انتشاره من الصين، وقد بدت في مرحلة أولى البلد الأكثر تضرّراً منه، قبل أن يتجه غرباً لتصبح الولايات المتحدة الأميركية المتضرّر الأول. مسارٌ مثير اتخذه الفيروس خصوصاً مع الحملات المتبادلة بين البلدين واتهام كل طرف الآخر بأنه وراء تصنيعه.

وبما أن البلدين في سباق اقتصادي وسياسي منذ سنين، فإن حدثاً خطيراً مثل جائحة كورونا يمكن أن يفضي إلى انقلابات في موازين القوى، وهو ما يستدعي نظريات الجغرافيا السياسية أو علم الجيوبولوتيك لفهم ما سيحدث قريباً، خصوصاً أن البلدين يملكان قدرات موسعة، من الديبلوماسية إلى التدخل العسكري، لفرض إرادتهما في أي موقع من الكوكب.

لن تكون الجيوبوليتيك مفيدة في قراءة الصراع الأميركي-الصيني فحسب، فالكثير من الإشكاليات في الأفق سوف تستدعيها، ومنها مصير الاتحاد الأوروبي، والحاجة العالمية إلى توزيع مواطن التصنيع في العالم، وصولاً إلى عالم عربي في حالة من الغليان منذ سنوات.


نقد الرأسمالية

ليس نقد الرأسمالية حقلاً معرفياً مستقلاً بذاته، لكن المؤلفات التي تجعل من تفكيك توجّهات النظام العالمي موضوعَها لا تعدّ ولا تحصى. إنه تيّار عابر لمختلف الحقول الفكرية والفنية، من الفلسفة إلى الرواية.

وإذا كان الفكر الاقتصادي يمثّل الحامل الرئيسي لمدوّنة نقد الرأسمالية، فإن توسُّع دائرتها له انعكاسات على صعيد نقد الساسيات العامة، من مركز إلى أطراف النظام العالمي، بتقاطعات لافتة مع قضايا مثل الفساد وخيارات التنمية، خصوصاً أن السنوات الأخيرة قد فتحت أفقاً تنظيرياً بصعود حركات احتجاجية كثيرة مثل "بوديموس" في إسبانيا و"السترت الصفراء" في فرنسا.

ومن وراء ذلك لنا أن نستشرف صعود تيارات فكرية تستند إلى هذه المدوّنة الضخمة حول نقد الرأسمالية، لعل من بينها عودة أشكال التفكير ضمن الفوضوية، كما نجد أثر ذلك مع سلافوي جيجك أو ميشيل أونفري، أو المزيد من التأسيس لتيار "العلومة البديلة" بما يعني ربما من عودة إلى نظرياتٍ أحدُ أبرز وجوهها المفكر الاقتصادي المصري الراحل سمير أمين.


الفلسفة الأخلاقية

إلى عقود مضت، كانت الفلسفة الأخلاقية تبدو مثل فرع مهجور من فروع الفلسفة، حيث يمكن الاكتفاء بما جاء به أفلاطون وسبينوزا وروسو وهيغل، غير أن المجتمعات الحديثة قد أنتجت من الإشكاليات ما فرض إعادة تطوير "علم الأخلاق"، ليجد في انعكاسات التطوّر المتسارع للتقنيات على البشرية مجال تحرّك واسع، ومن ثم يتوسّع في اتجاهات أخرى.

وقد أظهر فيروس كورونا إشكاليات جديدة تُطرح على أكثر من صعيد، منها الخيارات الحكومية في ما يخصّ الصحة، وأي أولويات للبحث العلمي مستقبلاً، وهي إشكاليات تعني ربما تقارباً في المستقبل بين الإيطيقا والابستيمولوجيا، كفرعين فلسفيين يبدوان في الظاهر متباعدين للغاية.


علم المستقبليات

قد يكون الوضع غير المتوقّع الذي وجدت فيه المجتمعات نفسها سبباً في النفور أكثر من كل ادعاء للعلم بأنه قادر على ضبط العالم، كما قد يكون حافزاً لتطوير أدوات التوقّع بحيث يمكن استباق وضعيات مماثلة بإمكانيات نظرية ولوجستية أكثر فاعلية من التي اعتمدت ضمن ظرف كورونا.

الخيار الثاني سيصبّ في اتجاه ازدهار حقل معرفي يجد منذ عقود صعوبة في فرض نفسه في خارطة المعارف، وهو علم المستقبليات Futurologie، فرغم الشهرة التي حقّقها بعض المنظرين مثل ألفين توفلر وجيرمي ريفكين فإن الجمهور الواسع لم يأخذ بعد المستقبليات على محمل الجد.

لا يدعي هذا العلمُ كهانة، فلا يمكن السيطرة بشكل كامل على الفرضيات التي يمكن أن تتدخّل في "إنتاج" الواقع، لكنه يقدّم تصوّراته حول السيناريوهات التي يمكن أن تتجسّد واقعاً، وهو ما قد يتيح عند تحقق بعضها قدرات تجاوب أعلى.

المساهمون