لم ننتهِ بعد من اكتشاف فرناندو بيسّوا

04 فبراير 2015
بيسّوا في عمل لـ أزولاجو سولاجو سوبري/ البرتغال
+ الخط -

لم ننتهِ بعد من قراءة كل ما كتبه الشاعر البرتغالي فرناندو بيسّوا (1888 - 1935). فمنذ فترة قصيرة، عثرت مواطنته، الباحثة آنا ماريا فريتاس، داخل أرشيفه، على أربعة نصوص غير منشورة له، كان قد كتبها بين عامَي 1906 و1907 باللغة الإنجليزية، وجمعها تحت عنوان "قصص مُحاجِج" (من حجّة)، وتشكّل محاولاته الأولى في نوعٍ أدبي كان مولعاً به وسيطوّره لاحقاً في كتاب "كاريزما المفكِّك" (1913 - 1914) الذي يتضمّن سلسلة قصص بوليسية كتبها بالبرتغالية.

تجدر الإشارة بدايةً إلى أن بيسّوا وقّع جميع قصصه البوليسية وأبحاثه التاريخية باسم هوراس جيمس فابر، بينما وقّع أشعاره وقصصه الخيالية وأبحاثه الشعرية باسم شارل روبرت أنون. وتكشف قصص "هوراس جيمس فابر" تأثّره بإدغار آلان بو وكونان دويل، ونضجاً مدهشاً لكاتب في الثامنة عشرة من عمره؛ نضجاً يتجلى في تشييده البارع لشخصياته وحبكات قصصه المتينة وموضوعاته.

ومنذ تلك الفترة، كان الشاب بيسّوا يملك تصوّره الخاص للأدب البوليسي، إذ نعثر في "قصص مُحاجج"، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن "دار كريستيان بورجوا" الباريسية، على جميع العناصر التي سيطبّقها لاحقاً في "كاريزما المفكِّك"، مثل مفهومه لهذا النوع الأدبي كتسلية فكرية، وانحرافه بمركز السرد من اللعبة السردية إلى تحليل الطبائع والمشاكل التي تطرحها طريقة اشتغال الذهن. وفي هذا السياق، يتركّز السرد معه على شخصية رئيسية هي، أكثر من مجرّد تحرّ ميداني، شخص مُحاجج يرتكز في تحقيقاته على الجدل بواسطة طرح واستخلاص الحجج والأدلّة.

وبالتالي، تشكّل قصص بيسّوا البوليسية تمارين ذهنية، قصصاً خيالية يتم فيها حلّ القضايا أو الجرائم عن طريق المحاججة الفكرية البحتة التي يقودها ويليام بينغ، بطل قصصه الأولى، وأبيليو كاريزما، بطل قصصه اللاحقة. وثمة وجوهُ شبهٍ بين هاتين الشخصيتين، مثل تقديم الكاتب لكل منهما، في مقدّمة تسبق القصص، كشخصية متوفّية يسرد الراوي القضايا البوليسية التي حلّتها بعبقرية، وأيضاً كشخصية كانت تعمل في ميدان آخر قبل أن تضطلع بحلّ ألغاز استعصت على رجال الشرطة. إلى جانب ذلك، يشكّل إدمان الاثنين على الكحول سبب وفاتهما (مثل بيسّوا)، كما يظهر الاثنان (أيضاً مثل بيسّوا) كشخصين غير متأقلمين في محيطهما الاجتماعي.

لكن المقارنة تتوقف عند هذا الحد؛ فبينغ إنجليزي ينشط داخل محيط غير محدد، ويستحضر شخصية شيرلوك هولمز في المشاهد التي نراه فيها جالساً في صالونه مع معاونه، يستقبل نساء عصبيات أتين لطلب المساعدة منه؛ بينما يقيم كاريزما في ليشبونة التي يعبرها يومياً على إيقاع تأملاته، ويطلّ عليها من شرفته في الطابق الثالث، ويملك شخصية متطوّرة أكثر من شخصية بينغ.

ومن بين قصص مجموعته الأولى، تبدو "قضية أستاذ العلوم" الأكثر تطوّراً، وإن بقيت غير مكتملة؛ إذ تتضمن 121 وثيقة لها علاقة بالقضية المطروحة فيها؛ وثائق تتراوح بين شهادات لشخصيات مختلفة وملاحظات غزيرة لبينغ حول تطوّر التحقيق، تتجلى تدريجياً من خلالها هوية القاتل والطريقة التي اعتمدها لاقتراف جريمته ونوعه كمجرم. وفي "قضية المعادلة الرباعية"، التي كان عنوانها الأول "قضية نظرية نيوتن"، وتتضمن 84 وثيقة، يروي بيسّوا قصة جريمة وانتحار، يتجلى فيها اهتمامه بـ "علم الدقّة" الذي يشمل تصنيف الطبائع، دراسة سرديات الشهود، علم تحليل الخطّ.

وفي "قضية السيد أرنوت"، يقارب لغزاً يتعلّق بجمعية سرّية من خلال شخصية والتر أرنوت الذي يقبل، مقابل معاش شهري كبير، بتغيير هويته وبحمل ندبة في مكان محدد على وجهه، وبمغادرة الولايات المتحدة للعيش في كاب تاون في أفريقيا الجنوبية. أما القصة الأخيرة في مجموعته، "الوثيقة المسروقة"، فيسعى الكاتب فيها إلى بلوغ الحقيقة في ما يتعلّق بالقضية التي رواها إدغار ألان بو في "الرسالة المسروقة".

ويظهر تأثّر بيسّوا بالشاعر والكاتب الأميركي عبر تأسيسه في هذه القصة لمواجهة أدبية مع بو الذي يُعتبر، بالقصص الخيالية التي كتبها، رائد الرواية البوليسية الحديثة. ومع أن هذا العمل بقي غير مكتمل، إلا أنه جدير بالاهتمام، نظراً إلى طبيعته المثيرة للفضول، وإلى غياب شخصية ويليام بينغ عنه، ما قد يعني أنه ربما يكون القصة الأولى التي كتبها بيسّوا.

يبقى نص "قصة بوليسية" الذي هو بحث طويل، لكنه غير مكتمل، للكاتب في النوع الأدبي البوليسي، كتب معظم وثائقه الـ49 بالإنجليزية، ووثيقتين بالبرتغالية، ووقّعها باسم شارل روبرت أنون. ولا شك في أن اهتمامه بالأدب البوليسي ومواظبته على قراءة الإصدارات الجديدة في هذا النوع يقفان خلف التأملات التي أضافها تدريجياً على النص الأصلي لهذا البحث الذي وضعه عام 1905، على أمل إكماله، أو بهدف الاستمرار في التفكير ببعض جوانبه. وما يشهد على ذلك المراجع التي يستحضرها وتمتد حتى عام 1928.

وتدلّ كتابة بيسّوا لهذا البحث بالإنجليزية على أنه كان ينوي نشره في بريطانيا، الوطن الحقيقي للأدب البوليسي، بحسبه. فالأعمال البوليسية التي كان يشتريها ويقرأها ويعلّق عليها لم تكن تثير أي اهتمام يُذكر في البرتغال آنذاك. وبالتالي، أراد بيسّوا في هذا البحث فتح حوار مع الثقافة البريطانية، وتحديداً مع كاتبيه المفضّلين في هذا النوع: س. س. فان داين الذي كتب عام 1928 "القواعد العشرون للرواية البوليسية"، ورونالد أ. كنوكس الذي كتب في العام نفسه "عشر قواعد ذهبية للرواية البوليسية"، من دون إهمال "نادي التحرّيين" الذي تأسس في نهاية العشرينيات، واهتم أعضاؤه أيضاً بخطّ حدود هذا النوع الأدبي وباستخلاص مميزاته.

ولدى قراءتنا لهذا البحث، نستشفّ بسرعة الجدّية التي تعامل بيسّوا بها مع هذا النوع الأدبي الذي نظر نقّاد كثر إليه، في تلك الحقبة، كنوعٍ ثانوي. كما نستنتج معارفه العميقة في تاريخ هذا النوع وأهم إصداراته، وفهمه الدقيق للأفكار والمميزات التي تحدّده. ولعل أفضل دليل على ذلك هو القصص الأولى واللاحقة التي كتبها في هذا النوع؛ قصص ترتكز على هذه المعارف وتستمد منها نموذجها، لكنها تؤقلمها ببراعة وفقاً لعالم بيسّوا الأدبي ومتطلّباته.

دلالات
المساهمون