ماريانو بيرتوتشي.. خروج عن النص الاستعماري

19 نوفمبر 2014
من أعمال الفنان
+ الخط -

حتى وقت قريب، كانت مقولة "تلاميذ ماتيس"، في إشارة إلى جيل الفنانين المغاربة الأوائل، تشكّل قناعة راسخة لدى بعض مؤرخي ونقاد الفن الفرنسيين؛ إذ ظل هؤلاء يعتقدون أن الزيارة التي قام بها هذا الفنان "التوحشي" إلى المغرب، عند مطلع القرن العشرين، تركت بصمات واضحة على أعمال الجيل الأول من فناني المغرب. والحال أن إقامته المغربية التي قاربت السبعة أشهر (1912 ـ 1913)، لم تكن في الواقع سوى رحلة بحث مضنية عما يدعم لمسته الفنية ويضيف جديداً إلى طموحه الإبداعي، في مرحلة كان يعيش فيها ـ ومعه ديناميكية التشكيل الفرنسي عموماً ـ ما يشبه الانحسار في الإبداع.

الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية التي عاشها المغرب خلال النصف الأول من القرن العشرين، باعتباره مستعمرة فرنسية وإسبانية؛ لم تكن تسمح لنخبته الثقافية التقليدية بمناقشة هذه المسألة "الهامشية". لكن بدءاً من خمسينيات القرن الماضي، ظهر جيل جديد من الفنانين المغاربة، انبرى بسرعة للدفاع عن خصوصيته الفنية، بما يعيد توضيح تلك العلاقة السالبة التي نشأت بين الفنانين المغاربة ونظرائهم الغربيين، ممن عاشوا في المغرب أو أقاموا به فترات متفرقة، وذلك على نحو ينفي تأثيرهم المباشر في تشكّل الملامح الأولى للممارسة الفنية الحديثة في المغرب.

على نقيض قناعة المؤرّخين ونقاد الفن الفرنسيين المذكورين، ودونما إمعان في فرض أو ادّعاء أي "أبوّة" محتملة، شكّلت الإقامة الطويلة للفنان الإسباني الغرناطي ماريانو بيرتوتشي (1884 ـ 1955)، في المغرب، مرحلة فارقة في تاريخ تشكُّل جانب مهم من الوعي البصري لدى شريحة واسعة من الشباب المغربي، خصوصاً في مناطق الشمال التي كانت خاضعة للحماية الإسبانية.

من مواليد غرناطة، ينحدر بيرتوتشي من أسرة مالطية هاجرت إلى إسبانيا إثر حملة نابليون التوسعية خلال نهاية القرن الثامن عشر. ومنذ طفولته الباكرة، افتُتن الفتى الغرناطي بعالم الخطوط والألوان والأشكال، فبدأ يتردد، وهو في سن العاشرة، على محترفَي الفنانين المعلّمين إدواردو غارسيا كويرة ثم جوزيف دو لا روشا. هذه التأثرات الأولى بإغراءات عوالم الرسم والتصوير، دفعته، بعد ذلك، إلى الانتقال إلى مدينة مالقة لإتمام دراسته في "الأكاديمية الجهوية للفنون الجميلة"، قبل أن يشدّ الرحال إلى العاصمة مدريد للغرض ذاته.

تؤكد مراجع تاريخية كثيرة حول فترة الحماية الإسبانية على شمال المغرب، أن الفنان بيرتوتشي ارتبط وجدانياً بمدن طنجة وسبتة وشفشاون ومناطق الريف، ثم بمدينة تطوان، منذ طفولته. إذ تكشف أعماله الأولى، مثل "سوق طنجة" و"سوق الفواكه" و"مسيح النور"، التي عرضها في غرناطة عام 1899، عن طبيعة هذه العلاقة الخاصة، على الأقل في جانبها الفني، قبل أن تتحول، في مرحلة ثانية، أي ما بين عامَي 1900 و1928، إلى ما يشبه العمل التوثيقي ـ التصويري الذي كان موجّهاً لصالح السلطات الإسبانية.

لكن قرار تعيينه، عام 1930، مديراً لـ"مدرسة الحرف والصنائع الفنية"، التي أُسِّست خصيصاً للمحافظة على الآثار وصيانة الفنون التقليدية والجميلة في المناطق الشمالية، والقيام بمسح شامل للمناطق التي تشتهر بصناعتها؛ سيشكل لحظة حاسمة في مساره راجع فيها بعض أفكاره السياسية، وتمكّن من تغليب روحه المبدعة على المصالح الضيّقة لبلده.

وما يزكي هذا التحوّل، في تقدير عدد من المراجع التاريخية، هو ذلك الإصرار الذي أبداه أمام السلطات الرسمية الإسبانية من أجل إحداث مدرسة إعدادية لتدريس الفنون الجميلة، بعدما كان توجُّه هذه السلطات منصبّاً على ترسيخ كل تنويعات تلك العقلية التقليدية التي كان المغرب ما يزال يجرّب كثيراً من مظاهرها، خصوصاً ما يرتبط منها بالمصنوعات اليدوية البسيطة، من دون تجاوز ذلك نحو التأسيس لأية ممارسة فنية حديثة.

وفعلاً، ستشهد مدينة تطوان عام 1945 تأسيس أول مدرسة لتدريس الفن في المغرب. مدرسة كانت مقتصرة، في البداية، وكمرحلة تجريبية، على الطلبة الإسبان وبعض اليهود المغاربة، قبل أن تنفتح تدريجياً، وبإلحاح من بيرتوتشي نفسه، عند نهاية الأربعينيات، على الطلبة المغاربة، الذين خبروا فيها بعض الاختصاصات التقنية والنظرية للتعبير التشكيلي، ما أتاح لبعضهم، لاحقاً، إمكانية إتمام دراساتهم العليا في عدد من المدارس والمعاهد الفنية الغربية، الإسبانية والفرنسية خصوصاً.

وفي ظرف وجيز، استطاعت هذه المدرسة، التي بقي بيرتوتشي يسهر على إدارتها حتى وفاته في 20 تموز، يونيو 1955، أن تكسر حاجز تلقّي وممارسة فنون الرسم والتصوير داخل أوساط الشباب المغربي والأسر المغربية المحافظة، الذين كانوا ينظرون إلى كل ما يتصل بالفن بازدراء كبير، ويعتبرونه حرفة من لا حرفة له، ووجهة من يفشل في الدراسات التقليدية.

وبسرعة، سيتحول هذا المشروع التربوي الفني، بعد استقلال المغرب عام 1956، إلى "غنيمة حرب"، أي إلى نواة لما يعرف اليوم بـ "المعهد الوطني للفنون الجميلة"، حيث ما زال أسلوب المعلّم ماريانو بيرتوتشي التشخيصي المدرسي الصارم، حتى اليوم، يصرّ على التسلّل في لمسة كثير من متخرجيه، مقابل تلك اللمسة التجريدية الحرّة التي كرستها مناهج وبرامج "مدرسة الفنون الجميلة" في مدينة الدار البيضاء، التي أسّستها سلطات الحماية الفرنسية عام 1952.

طبعاً، لم يكن من أولويات السلطات الاستعمارية، الفرنسية والإسبانية، ولا في خططها، إشاعة ثقافة أو ممارسة فنية حديثة بين الشباب في مستعمرتها المغربية، بقدر ما كانت تسعى إلى الإبقاء على تحجّر العقليات، وإلى ترسيخ نمط عيشها التقليدي. إلا أن بعض موظّفيها كانت لديهم ميول أخرى. وينطبق هذا الأمر بقوة على الفنان ماريانو بيرتوتشي الذي ذهب بسلوكه وإنجازاته عكس العقلية الاستعمارية لبلده، التي كان يقودها الجنرال فرانكو فوق أراضي الشمال المغربي.

دلالات
المساهمون