ضياء العزاوي: الفن إعلان وجود

17 ديسمبر 2019
(العزاوي في "متحف" في الدوحة، 2019، عليا مورفان، Getty)
+ الخط -

يتأمّل ضياء العزاوي محطّات رحلته الممتدة التي يشكّل خلالها العراق أول الحرف واللون وآخرهما، مستعيداً لحظة طُلب منه عام 1976 تصميم طابعٍ بريدي في ذكرى تأسيس "حزب البعث"، فردّ بالرفض وقرّر مغادرة البلاد إلى لندن، محدّثاً نفسه حينها أنه سيغيب بضع سنين فقط ريثما تتغيّر الأمور وتعود إلى حالها.

مرّت أكثر من ثلاثة وأربعين عاماً بحروبها وآلامها، وكلما استعادها الفنان العراقي (1939) عادت به الذاكرة إلى العمليات التي قادها الجيش العراقي في مناطق الأكراد بين عاميْ 1974 و1975 في أثناء تأديته الخدمة العسكرية في إحدى البلدات القريبة، حيثّ أقام معرضاً على أثر ذلك عبّر فيه عن احتجاجه على ما سمّاه "حرب الإخوة".

بهذه الاستدعاءات افتتح مقابلته مع "العربي الجديد" بالتزامن مع مشاركته في المعرض الجماعي "كائنات المخيال: خزف عربي معاصر"، الذي يتواصل في "المتحف الوطني للفنون الجميلة" في عمّان حتى السادس من شباط/ فبراير المقبل.

حول هذه التجربة، يوضح أن الرسام له أدواته الخاصة المغايرة تماماً لفن الخزف، الذي كان يذهب إليه كلما ضجر من الرسم أو الحفر أو التصميم، حتى استطاع أن يمتلك معرفة جيدة في صناعته واستعمال الأكاسيد، مشيراً إلى أن المعرض يقدّم تجارب جديدة ويفتح المجال أمام أصحابها للعرض في أماكن مختلفة، منها "معهد العالم العربي في باريس".

يلمّ العزاوي حديثه المتشعّب ويعود إلى الذكريات، حيث كانت السياسة التي انخرط فيها كلّ أبناء جيله تعني التغيير، حالمين بتطوير المجتمع ونهضته، حيث آمن صاحب لوحة "سننظر غداً" بحتمية التحديث في اللوحة وفي الواقع، فكان أحد مؤسسي "جماعة الرؤية الجديدة" عام 1969، ببيانها الشهير الذي أكد على أن "إنسان الماضي والحاضر معاً"، ووقّع عليه مع إسماعيل فتاح، ورافع الناصري، وصالح الجميعي، ومحمد مهر الدين، وهاشم سمرجي.

ضياء العزاوي تفرّق شمْل الفنانين السبعة واختلفت مآلاتهم، لكن تلك المقولة التي أتت بداية كردّ على جيل الخمسينيات في استلهامه الموروث العراقي بضرورة الانفتاح على الفن العربي، ظلّت هاجساً أوحد لدى العزاوي الذي ركّز بحثه البصري على هوية عربية لما يقدّمه من أعمال يتنقّل عبرها بين الرسم والحفر والطباعة وأعمال التجهيز والسيراميك وغيرها.

لم تغب عن هذا الإطار دراسته في كلية الآثار في "جامعة بغداد"، والتي تخرج منها عام 1962، اكتشف خلالها تفاصيل فنون الحضارة العراقية القديمة، وفي الوقت نفسه التحق بكلية الفنون الجميلة في الجامعة التي تعتمد على تدريس الفنون بمصادرها الغربية، والتي ولّدت عنده مزيداً من التساؤلات حول هوية الفن.

في "مهرجان الواسطي" الذي انطلقت دورته الأولى في بغداد عام 1972، انعكست تلك الأفكار عبر تنظيمه ومشاركته في تلك التظاهرة التي كرّست التقاء فنانين عرب في وقت كانت معظم البلدان العربية مغلقة على نفسها في مجال الفنون، ليتكرّر المشهد في معرض الدار البيضاء عقب عدّة سنوات الذي حظي حضوره حينها بإشادة عبّرت عن "جانب عاطفي"، على حدّ قوله، في مرحلة كانت لا يزال المغرب فضاء لمعارض غربية فقط.

تبلورت ملامح التجريب المبكرة مع تقديمه دفاتر الرسم التي نفّذ أول عمل منها بنسخة واحدة بعنوان "مقتل الحسين" عام 1968، وتوالت بعدها مختاراته من الشعر العربي القديم والحديث، حيث أنجز دفتراً آخر تضمن قصيدة "انتظريني عند تخوم البحر" للشاعر العراقي يوسف الصائغ سنة 1971، وفي كلّ مرة كان يراكم تنويعاً جديداً في أعماله الطباعية.

يشير العزاوي إلى ما قدّمه من فرنسا من أعمال كانت أغلبها طباعية، بعدما اطلع على المخطوطات العربية القديمة في الأدب والطب والفلك والزراعة هناك، حيث وضع رسوم العديد منها لتشكّل "وثيقة بصرية تختزن التاريخ"، بحسب وصفه لما أنجزه من مخطوطات، منها واحدة للواسطي.

بحثاً عن وسائط مختلفة، توجّه بعد ذلك إلى تقديم حروفياته كجزء من اللوحة في وقت مبكر أيضاً، وصولاً إلى الثمانينيات حين شاهد عملاً كاليغرافياً للفنان الإنكليزي روبن ديني في متحف "تيت" اعتمد فيه على شكل حروفي كوفي مربع، ليتعاظم لديه السؤال عن انتساب العمل إلى هوية عربية أم أن الخط العربي هو إرث إنساني، وحينها قرّر التخلي عن التجربة.

في تلك الفترة أيضاً، نشأت علاقة العزاوي بالتصميم الغرافيكي من خلال "المعرض التشكيلي الدولي من أجل فلسطين" عام 1978 في بيروت، كما يوضح في حديثه لـ"العربي الجديد" حول الفن كفعل تحريضي والذي شارك فيه بعدّة تصميمات، ثم أعاد التجربة من خلال المساهمة في تنظيم "معرض بغداد العالمي للملصقات" في العام التالي، بهدف "انخراط الفنانين العالميين في العمل لفلسطين".

يستذكر الفنان تخصيص مسابقة دولية في المعرض البغدادي تتناول القضية الفلسطينية، نشرت الملصقات المشاركة ومنها عمله "الوطن المنسي" في مجلات عالمية، لكن جميع الأعمال كان مصيرها الضياع مثلما حدث في معرض بيروت.

ضياء العزاوي"أجد نفسي محظوظاً قياساً بأبناء جيلي، حيث أتيحت لي فرصة تطوير تجربتي والحضور في مستويات عديدة"، هكذا يقرّ العزاوي بأهمية المنفى الذي مكّنه من الانفتاح على ثقافات مغايرة والخروج من الخصوصيات المغلقة وتحقيق تجارب أكثر انتساباً إلى العصر، والذي كان له دوره في ظهور الألوان الحارة الصريحة في لوحته وتكريسها في أسلوبية لا تخصّ غيره، متمسكاً بها رغم ما يعتبره البعض خاصة في الغرب بأنها تعبير عن حالة بدائية، والتي يصفها بأنها "باقية في داخلي".

وعند سؤاله عن خارطة المشهد التشكيلي في العالم العربي، يقول ضياء العزاوي "لا توجد حركة فنيّة عربية، ولكن توجد أسماء عربية مهمة لم تتخل عن موروثها الثقافي وانتسابها الحضاري العربي"، ويعدّد من هؤلاء الفنانة الفلسطينية منى حاطوم، والجزائري عبد الصمد، والسوري الراحل مروان قصاب باشي (1934 - 2016)، مشيراً إلى أن وجودهم المبكر في الغرب ساهم في توسيع دوائر إبداعهم، وتواصلهم مع العالم.

بعد حرب الخليج الثانية عام 1990، سيذهب نحو "بلاد السواد"؛ مجموعة الأعمال التخطيطية كبيرة الحجم التي أنجزها كلّها بالأسود ومنها لوحة "روح مجروحة.. نبع ألم" (2010)، ولوحة "مرثية لمدينتي المحاصرة" (2011).

التصاق فنه الوثيق بالواقع هو تعبيرٌ عن "موقف أخلاقي"، يرى العزاوي أن المثقف عليه امتلاكه عبر الاحتجاج على الظلم أينما كان، حيث عكست لوحته "المهمة التدمير" التي تُعرض في "متحف الفن الحديث" في نيويورك، موضحاً أن "المهمة بدأت بالتدمير بالنهب وإيصال المجتمع العراقي إلى الانحطاط".

وفي لوحته الشهيرة "صبرا وشاتيلا" أصرّ على تثبيت أن الميليشيات "المسيحية" الانعزالية هي التي قامت بقتل أبناء المخيم بدعم إسرائيلي، كشروحات لها في متحف "تيت" في لندن، مؤكداً أن "الفن ضدّ الإلغاء. الفن إعلان وجود".

وفق البوصلة ذاتها، كانت ملصقات العزاوي الأبرز خلال الاحتجاجات الشعبية المتواصلة في العراق منذ حوالي ثلاثة أشهر، والتي تناقلتها صفحات المؤيدين للمظاهرات عبر وسائط التواصل الاجتماعي، والتي عبّرت عن مواقف عديدة قدّمها، مثل رفض الانتقام، والانحياز لقوة وشجاعة الشباب في مواجهة الرصاص والقتل المتعمد، والتأكيد على عراق واحد للجميع، وأن الفقراء هم الذين ثاروا وأعادوا لنا شيئا اسمه وطن.

لم تغادر تلك النزعة التصميمية الغرافيكية أعمال العزاوي، والتي لا ينفيها مع الإشارة إلى خصوصية كلّ تجربة خاضها وإضافاته فيها، وتأخذنا إلى أعماله الأخيرة حين استبدّ به سؤال لماذا يقتل شاب لأنه يستعرض بالعلم العراقي الذي يتدثّر به وسط الساحة، ما دفع إلى تنفيذ ملصقه الأول تحريضاً على مواصلة التظاهر في وجه الظلم والفساد والطائفية، داعياً العراقيين ألا يخذلوا الشهداء.

يعترف الفنان بأنه عاش قبل الحراك الأخير بمنتهى اليأس والحزن على بلد يمتلك إمكانيات النهوض كاملة لكن الأميركيين قاموا بتدميره وتسليمه لسياسيين اعتلوا الحكم بمنطق الانتقام، وكانت الطائفية هي أساس اجتماعات القوى المعارضة قبل الغزو، وحتى الشيوعيين ارتضوا المشاركة وفق قاعدة الغنيمة والمحاصصة.

"المؤسسة الدينية هي التي ترفض إنهاء الحكم الطائفي"، يقول العزاوي الذي يعتقد أنها لن تتخلى عن نفوذها، ما يجعله يخاف على العراق ومستقبل أبنائه، متوقعا مزيداً من البطش والقمع واستخدام القوة المفرطة، مشيراً إلى أن كلّا من إيران، التي استغلت طوال السنوات الماضية بطالة العراقيين لتحويلهم إلى مليشيات، وأميركا والغرب، اللذين يتجاهلان ما يحدث من احتجاج، لا يريدان عراقاً مستقلاً لا يتبع إلى أحد.

واستنكر صاحب لوحة "مدينة في الجنوب" الذرائع التي تلفّق من أجل الفتك بالمتظاهرين، سواء ربطهم بحزب البعث أو بالإرهاب أو غير ذلك، لافتاً إلى أن أعداداً كبيرة من المحتجين دافعوا عن الموصل وأرض العراق خلال المعارك ضد الجماعات المتطرّفة قبل أعوام، لكن تمّ إهمالهم بعد ذلك وعدم الاهتمام بمطالبهم واحتياجات عائلاتهم، ما ولّد الانفجار الأخير.

يؤكد العزاوي أن 1 تشرين الأول/ أكتوبر تاريخ جديد، والعراقيون يسيرون على الطريق الصحيح لإنشاء دولة مدنية مستقلة، وأتمنى للشباب أن يتسلموا السلطة لأنهم أصحاب مشروع حقيقي بعكس الذين أتوا على ظهر الدبابة الأميركية وتناسوا معاناة الناس قبل مجيئهم.

يتابع "اختلفت مع أصدقاء حول موقفي السياسي من الحراكات الشعبية في المنطقة، لأنهم يعتقدون أن ما يحدث هو صنيعة السفارات الأميركية، وأرد عليهم: إن السفارات لا تخترق مجتمعاً ما لم يكن منهاراً من الداخل".

يقول العزاوي "لا أعتقد أنني سأعود إلى العراق، وكنت قد غيّرت وصيتي بعد احتلال العراق عام 2003، حيث لا أريد أن أدفن فيه أو تُحفظ لوحاتي هناك بعدما شاهدت كيف خلق النظام السابق الطبيعة المدمرة للمجتمع الذي قام بدوره بتدمير ثقافته ومتاحفه، ثم الانفراد بالسلطة والانتقام من كلّ ما هو مختلف ومغاير عنه".

المساهمون