ليس لـ نيتشه أنصار فقط، وإن وُجدوا، فهم قلّة قليلة، وهم غالباً شباب في مقتبل العمر، ففلسفته تخاطب الأجساد قبل العقول التي عوّدتنا على دوغمائيتها. أمّا أعداؤه فهم يتربّصون بنا ومن كل ناحية. وما يدهشني أن نيتشه كان يعرف أولئك الأعداء حقّ المعرفة. وما يزعج في هؤلاء الأعداء أنهم لا يتوقّفون عن التناسل وبوتيرة مخيفة، اليوم أكثر من الأمس، حتى بتنا نخاف على ضياع شيء اسمه الأسلوب.
لقد تحدّث الفيلسوف الألماني في سخرية كبيرة عن ألمان عصره، وكتب في "ما وراء الخير والشر": "أيّ عذاب في قراءة الكتب الألمانية بالنسبة إلى من كانت له الأذن الثالثة!"، مؤكّداً أنّ كتابة مجايليه من الألمان أشبه بـ"المستنقع الراكد لأصوات بلا رنين وإيقاع دون رقص.."، وأنّ الألماني "لا يقرأ بصوت مسموع، لا يقرأ للأذن؛ يقرأ بالعينين فقط". لكنه لن يعيب ذلك على الألمان فقط، بل سيكيل الشتائم نفسها للإنكليز، معتبراً أنّهم يفتقرون إلى الموسيقى، وأنّ لا أثر للإيقاع والرقص لديهم. ولا عجب في مديحه للفرنسيّين، أحفاد ديونيسوس، أولئك الذين ستُكتَب له بين ظهرانيهم ولادة جديدة.
لمّا نتأمّل اليوم الأسلوب الفلسفي المعاصر، في السياق الألماني وخارجه، لن نقف - إلّا في ما ندر - على تلك الأُذُن الثالثة، ولربما يكون من الصعب أن نكتب بالألمانية بعد نيتشه، وقد تحدّث ناقد ألماني معاصر، هو هاينس شلافر، عن تأثير أسلوب نيتشه في جيل بأكمله وعن نتائجه السياسية الكارثية. ولكن سيكون من الصعب أن نتّهم نيتشه وأسلوبه، هو الذي تنبّأ مسبقاً بكلّ الكوارث السياسية، وانتقد حيونة الإنسان في الديمقراطية والاشتراكية، ولربما نقف اليوم مشدوهين أمام تحقُّق بعض من تنبّؤاته، تلك المتعلّقة بالديمقراطية خصوصاً.
سيستمر أسلوب نيتشه أكثر خارج الفلسفة، حتى وإن كنّا نجد حضوراً محتشماً له لدى هيدغر وأدورنو، ومحاولات لدى أودو ماركفارد وبيتر سلورتردايك، أو عند كتّاب الشذرة على قلّتهم، وخصوصا إيميل سيوران، أو لدى فلاسفة وكتّاب فرنسيّين مثل بلانشو ودريدا وليفيناس.
وقد كان نيتشه كاتب شذرة كبير، لم يتجنّب المواجهة، بل ظلّ يبحث عنها دوماً، ولم يُحصّن نفسه داخل نسق فلسفي، ولم يبحث عن أتباع، ولكنه ظلّ يردّد كلمات ما زال صداها يتردّد حتى اليوم: "نحن الذين لنا إيمان آخر"!، وقد نقول بتعبير آخر: "نحن الذين نملك أسلوباً آخر"، وهو أسلوب هجائي دوماً، لأنه لا يحسن النفاق والمراوغة. فالشاذر، كما وصفه شليغل، "يوجد دوماً في وضع هجائي"، وفنّ الشذرة يخاطب برأيه المستقبل. ولا ننسى أنّ العنوان الهامشي لكتاب "ما وراء الخير والشر" هو "توطئة لفلسفة مستقبلية"، وذلك على الرغم من أنّ مستقبل نيتشه يختلف راديكالياً عن أيديولوجيات المستقبل التي كانت تسود عصره.
وحتى نعود إلى أسلوبه، فقارئ نيتشه في لغته الأصلية يكتشف أنه لم يكتب فلسفته وإنما ألّفها كما يؤلف الموسيقي سمفونيته، وهذا ما يميّزه عن عديمي الأسلوب، أصحاب النفس الطويل، مثل كانط في السياق الألماني، الذين لا يتقنون الجملة القصيرة ومعها الموسيقى وممارسة الحب، ولكن قارئ نيتشه، في ترجمة علي مصباح، لن يعدم تلك الموسيقى الداخلية التي تميّز أسلوب نيتشه عن غيره، بل إننا نشعر كما لو أن مترجمه التونسي كان يترجمه بصوت مرتفع، وخصوصا في "ما وراء الخير والشر" و"إنساني مفرط في إنسانيته". إنّنا فعلاً أمام أعمال فنية كبيرة، حتى أننا نشعر أحياناً، أمام بعض الفقرات أو الشذرات، كما لو أن نيتشه نطقها بالعربية.
وكما الحال مع أسلوب نيتشه المتفرّد، فإن ترجمة مصباح متفرّدة، وهو لا يعيد كتابة نيتشه بالعربية فقط، بل يعيد كتابة العربية ذاتها، ويفتحها على إمكانيات أسلوبية لم تكن تعرفها.
ظلّ نيتشه يحلم بالتخلّص من موسيقى الأصقاع الشمالية، وبأن يمتزج بموسيقى المتوسّط وشمسه، لروحها - كما كتب في "ما وراء الخير والشر" - قرابةٌ مع النخيل وألفة حميمة مع الوحوش المفترسة الكبيرة والمتوحّدة.
ولربما لو قُيّض له أن يعيش بين "المحمديّين" يوماً، كما كان يخطّط، ليتمكّن من الحكم على أوروبا بشكل أكثر موضوعية، ولو قُدّر له أن يتعلّم لغتهم، فلن يجد تلك الموسيقى الجنوبية التي ظلّ يحلم بها، ولا تلك الروح الجنوبية التي ظل يمتدحها، إلّا في هذه الترجمات التي وضعها علي مصباح، كما يضع الموسيقي ألحانه.