يذكُر غالي شكري، في كتابه "الرواية العربية في رحلة العذاب"، أن روايات محمد عبد الحليم عبد الله كانت الأكثر توزيعاً من نهاية الأربعينيات إلى منتصف الستينيات من القرن العشرين، وهذا يعني أنه كان متقدّماً في التوزيع على نجيب محفوظ نفسه وعلى إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وعبد الرحمن الشرقاوي. ولكن هذا الروائي اختفى اليوم اختفاءً تاماً من الذاكرة الثقافية العربية، لا من السوق أو المكتبات فقط.
وأذكر، أيضاً، أن حنا مينه، الروائي السوري الذي اشتهر في العقود الأخيرة من القرن العشرين، لم يكن معروفاً على النطاق السوري حتى نهاية الستينيات من ذلك القرن، وكانت روايته المعروفة "الشراع والعاصفة" لا تزال موجودة في مكتبات دمشق على الرغم من مرور قرابة عشر سنوات على صدورها.
وحالة الروائي المصري ليست وحيدة، فقد شهدت معظم الثقافات مثل هذا الوضع، إذ يندّد جان إيف تادييه، في مقدمته التي نُشرت برفقة الترجمة العربية لرواية "البحث عن الزمن المفقود"، بأولئك المؤلّفين الذين كانوا رائجين في عام 1900، بينما تتعفّن كتبهم (في أيامه) في صناديق بائعي الكتب القديمة.
ويبدو التفسير الموجز الذي قدّمه تادييه للمآل الذي وصلت إليه تلك المؤلّفات مقبولاً، بقدر ما هو غير واضح، إذ يقول إن تلك الكتب لم يعد لديها ما تقوله الآن، وهذا ممكن بسبب تغيّر العصر والهموم والمطالب البشرية، وربما بسبب تغيّر الذائقة والمزاج الأدبيَّين، أو تبدّل معايير تقييم الأدب. لكنه يضيف قائلاً إن هذا قد حدث "لأنها باحت بكل شيء لقرّائها الذين ذهبوا معها".
وعلى الرغم من أن العبارة تتضمّن هجاءً لأولئك الذين باحوا بكل شيء، فإن الكلام عن القرّاء محيّر، فمن الواضح أن الكاتب قد كتب روايته لأبناء زمنه، وهو ما تتضمّنه روح الكتابة والتعبير في كل زمن وكل عصر، وهو ما صال النقد الأدبي في العالم وفي عالمنا العربي وجال فيه طوال النصف الثاني من القرن العشرين، وسُمّي آنئذ "روح العصر". إذ كيف يستطيع الكاتب أن يعلَم ما الذي يريده الناس من الكتابة بعد خمسين سنة أو أكثر من موته؟
وفي المقابل، من الصعب أن نقول إن نجيب محفوظ كتب لأبناء الزمن القادم، وقد نال حقّه من القراءة في عصره الذي كتب عنه، ومثله في ذلك الروسي دوستويفسكي، إذ لم تكن مسألة القراءة والانتشار تقلق باله، لأنه حقّق في زمنه انتشاراً كبيراً بين القرّاء.
العجيب أن يكون كاتب مثل ستندال الفرنسي قد قال، ذات يوم، حين لاحظ أنه لم يكن مقروءاً من أبناء جيله: "إن القرن الحادي والعشرين سوف ينصفني" لماذا؟ لا نعرف ما هي المعطيات التي توفّرت للكاتب عن أدبه كي يخرج بهذه النبوءة التي تحقّقت قبل أن نصل إلى القرن الحادي والعشرين بكثير. وفي كل وقت، يبدو الأمر مثل سباق المسافات، ولا يدري أحد مِن كتّاب اليوم مَن منهم قد يُنسى بعد غد، ومن منهم سيصل إلى القرن التالي.