محمد المدني: تصوّف ضدّ المستعمر

06 فبراير 2017
(من جامع الزيتونة، تونس، تصوير: دي أغسطيني)
+ الخط -

في النصف الأول من القرن العشرين، حين كانت تونس ترزح تحت الاستعمار، خاض مثقفون معركة ترسيخ الهوية العربية، ومنهم الشيخ محمد المدني (1888-1959) الذي ساهم ضمن الحدود المعرفية التي سمحت بها مرجعيَّته في هذا الجهد، فزاوجَ بَين مَجالات المعرفة في خطاب رشيد يمكن أن يكون من روافد التحديث والتصالح مع الذات في زمن النكران.

تَلقَّى المدني تكوينه المعرفي في أرْوقة جامع الزيتونة، لدى أئمة اللغة والفقه والتفسير. وفي سنة 1906، التقى بالشيخ أحمد العلاوي (1868-1934) الذي لَقَّنه رقائق التصوّف وآدابَ السلوك، فَاجتمع لديه عِلْما الظاهر والباطن، وهو ما انعكس في مُصنفاته الخمسَة عَشرة.

في هذه الرحلة، التَفَّ حَول الشيخ آلافُ المُريدين من تونس ومن خارجها فَرَبَّاهم على المواءمة بينَ الحِكمة الروحية والعلوم العقلية؛ إذ بالاستئناس بِمنهج الغزالي، حُجَّةِ الإسلام، رَكَّز المدني كتاباتِه على التأصيل لِمقامات الوصول، بَرهَنَةً على تطابق الممارسات والمفاهيم الصوفية مع النُّصوص المَرجعية.

فأبانَ في كتابه "برهان الذاكرين" أنَّ هذه المُمارسات، من أوراد وصُحبةٍ واجتماعاتٍ ومدائح وغيرها لا تخرجُ عن أصول الشرع. وما يَخترقها، حينَ يغلبُ الوجدُ، من شَطَحاتٍ تَتعارض ظواهرها مع النصوص فَيُرَدُّ بِضربٍ من التأوُّل إلى ما أجمعَت عليه المَصادر الشرعية. كما احتجَّ بقوله: لا يمكن أنَّ يُزَجَّ بأكابر الأمة الإسلامية وعلمائها مثل الجُنَيْد والقُشَيْري والغَزالي في مهاوي التبديع والتكفير لِمجرد عباراتٍ صرَّحوا بها وهم في حال من الانعتاق الروحي.

ومن ناحية الحكمة العمَلية، اشتهر المدني باعتماد التوعية المباشرة لسائر فئات المجتمع التونسي، مسلكاً تربوياً، ولا سيما في البوادي والأرياف، حيث تنقّلَ بَين شعابها الوَعرة، يَنشر الوعي الرّوحي ويلقّن مبادئ الفقه المالكي والعقيدة الأشعريَّة والتزكية الروحية، إسهاماً منه في النهوض بأبناء وطنه الذين كانوا يرزحونَ تحتَ الطمس الثقافي الذي كانت تدبّره حينَها مُؤسسات الاستعمار الفرنسي.

تُذكر في هذا السياق مجهوداته الفقهية من حيث إصدار الفتاوى المُيَّسَّرة، المرتبطة بالواقع، وأجوبته المُراعية لِمتغيرات التاريخ كتَجويز الغَسل بالشائح لتطهير الملابس، وتحديد مقادير الزكاة بالأوراق النقدية، وتَبَنّي فتوى شيخِهِ الطاهر بن عاشور في رَفض التجنيس.

بَرع المتصوّف التونسي بشكلٍ خاص في تفسير القرآن بنهجٍ يراعي المواءمة بين الظاهر والباطن، فَشَرَح سورة الواقعة في كتاب "الروضة الجامِعة"، وسورة الفاتحة وآيات النور، إلى جانب أكثر من عشرين مقطعاً متفرّقاً ركّز في جميعها على المعاني البيانية وأردف شرحه بما سَمَّاه "الاسترواح" بما هو استلهامٌ روحي-إشاري في تأويل الآيات وفهمها على نحو يتيح للضمير التحليقَ في مراحات المعنى.

كما حَبَّرَ ديواناً شعريّاً ثريّاً، تَغَنَّى فيه بتباريح العشق جرياً على أسلوب عمر بن الفارض، حيث استعادَ موضوعات العشق الإلهي وأساليبه الرمزية والاستعارية.

هذا وقد عيبَ عليه ما عيبَ على غيره من الصوفية، في كل زمان ومكان: من تَخلّيهم عن مُواجهة قضايا واقعهم، وارتباطهم بالغيبيات وتَركيزهم على السرديات المُتَخَيَّلة والمدحيات المفرطة. ولكنَّ يبدو من تراث الرجل أنَّه سعى جَهده إلى تثبيت هوية بَلَده العربية الإسلامية، وتصفية الإرث الصوفي من شوائب الخُرافات والغلو ومصالحته مع الفقه، في مرحلة اتسم فيها التصوّف بهيمنة الطرقية والشعوذة، كما صالح بَينه وبين العمل المجتمعي فَشَجَّع على الانخراط في الدنيا ومن حِكَمه المأثورة في هذا الباب قوله: "الزُّهد زهدُ القلب لا زهد اليد".

دلالات
المساهمون