معاجم القرآن.. هواجس المركزية الغربية

21 مايو 2020
جامع مدينة ليون الفرنسية (Getty)
+ الخط -

لا يزال القرآنُ يثيرُ، في المخيال الأوروبي العالِمِ، منذ عصر الأنوار إلى اليوم، تساؤلاتٍ - تُروَّج على أنها "منهجيّة" - حول مَضامينِه وصوره، فَضلاً عن بِنْيتهِ العميقة ولغته المُستغلقة، في ما زَعموا. ولهذا ظهرت، في أوروبا مطلعَ القرن الحالي، فكرةُ إنجاز موسوعاتٍ ومعاجمَ كاملة، مُخصَّصة لمفاهيمه الرئيسة بغَرض تقديم مقاربة شاملة عنه من خلال مداخلَ معجميّة تُنتَقى، بشكلٍ مسبقٍ، للتحليل والنقد. وغالباً ما تُعرض ضمن نسقٍ من العلاقات يربط تلك المفاهيم، باعتبار النصّ القرآني شبكةَ تصوّراتٍ، آخذ بَعضُها برقابِ بَعضٍ.

وتتمثلُ أولى هذه المحاولات في كتاب "مَوسوعة القرآن"، الصادر عن دار بريل الهولندية، سنة 2005، بإشراف الباحثة الألمانية جوهانا بِنك، وهي ثمرة تعاون العديد من الباحثين والمهتمين بالشأن القرآني، من العالم بأسره. وقد تناولوا طيَّ هذا العمل أهمَّ المصطلحات والمفاهيم والشخصيّات وأسماء الأماكن التي وَردت في القرآن، إلى جانب تحليل عناصرَ من التأريخ الثقافي ومن التفسير، لها وشائج قربى بموضوعات القرآن. امتدت هذه الموسوعة على مُجلداتٍ خَمسة، لتغطيَ قرابة ألف مَدخل ومفهوم. وهي تعدُّ أوّل مرجع، صيغَ بلغة أجنبيَّة (الإنكليزية) من أجل العرض الموضوعي thématique للقرآن، بأسلوبٍ وصفيّ.

وقد جاءت فيها الموادّ حسب الترتيب الأبجدي لمضامين القرآن. وخُتِم كلّ مقال منها بلائحة من المصادر والمراجع التي تساعد القارئَ المستزيدَ على التعمق في دراسة الموضوع المطروق. كما تضمَّنت، في نهاية أجزائها، ثبْتًا كاملاً بأسماء الأعلام والمفردات والعبارات العربية، علاوةً على فهارس للآيات والمصطلحات الفنيّة.

وأما ثاني هذه المحاولات فأنجِزت بالفرنسيَّة بعد ثلاث سنواتٍ فقط من صدور الأولى، أي سنة 2008، وهي تحمل عنوان "معجم القرآن"، بإشراف الباحث الفرنسي ذي الأصول الإيرانية محمد علي أمير معزّي. وقد شارك في إنجازه نخبةٌ من الباحثين الفرنسيين والعرب بلغ عددُهم الثلاثين، ممن لهم دراسات مشهودة في الشأن الإسلامي. ومن أبرز هؤلاء الرّاحل محمد أركون، وداود قريل وإيريك جوفروا، المتخصّصان في التصوّف الإسلامي، ومحمد الحسين بن خيرة، خبير الفقه المالكي، والنمساوية هايدي تولي وغيرهم...

يقع "معجم القرآن" في مجلد واحدٍ رُتِّبَت موادُّه حسبَ الأبجدية الفرنسية وقد تضمّن، كسابقِهِ، موادّ عَن أهم الشخصيات والمفاهيم والأماكن القرآنية ضمن مداخل مستقلة، طويلة نسبيًا، تتفاوت حسب حجم المادة والمعلومات.

العمل الثالث هو ما قام به الباحث الجزائري الراحل مالك شبل (1953-2016)، بعنوان "المُعجم الموسوعي للقرآن"، وقد صدر سنة 2009، أيْ بعد سنة واحدة من سابقه، وكأنّ هؤلاء الباحثين في سباق محمومٍ لتعريف القارئ الفرنسي بالقرآن. ويَقع معجمُه في جزءٍ واحدٍ، رتِّبَ حسبَ أحرف الهِجاء الفرنسية والمداخل فيه مفاهيم فرنسيّة، لا عربية. وقد ضمَّنه كلَّ التصوّرات والمحاور والتمثلات التي لها صلة بالقُرآن، إلا أن مَداخله أكثر، ومواده أقصر، فهو لا يخصّص سوى بضعة أسطر للمفهوم الواحد. وقد أعلنَ، في المقدمة، أنَّ هَدفه الإضاءة على السياق الثقافي والمصادر المعرفية لهذا النصَّ الكوني.

وفي المقابل، نلاحظ أنَّ الباحثين العرب- المسلمين، من غير علماء الدين ورجاله، لم يُنتجوا، حسبَ عِلمنا، موسوعةً مماثلةً تُقَدَّم من خلالها مداخلُ القرآن بشكلٍ نقدي وتاريخيّ دون خَلطِها بالمُعطيات الإيمانيّة.

وهكذا، صدرت، في نصف عقدٍ فقط، ثلاث موسوعاتٍ للقرآن على الأقل. نحن إذن أمام ظاهرة لها دلالاتٌ لا يمكن فصلها عن السياق السياسي الأوروبي: فتتالي الموسوعات، ولاسيما في الفضاء الفرنسي، يعكس رغبةً واضحة، لعلَّ جذورها تضرب في أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، في فهم هذا الذي يعتقده المسلمون كتابًا مقدّسًا وإعادته إلى سياقه الأصلي، وبيان أهم المحاور التي تشكل بنيته العميقة. كما يهدف للحُصول على قرائن تساعد على إدراك عوامل حضور الإسلام في النسيج المجتمعي الفرنسي، في ربطٍ سَخيفٍ بين سلوك المهاجرين وكتاب المسلمين!

كما سَعت هذه المداخل، في مسار مقابلٍ، إلى إظهار الصِلات المنعقدة بين القرآن وبين غيره من النصوص المقدّسة، ربما بسبب رغبة دفينة، بل وماكرةٍ، في سلبه كل خصوصيّةٍ وجَعله مجرَّدَ امتدادٍ أو حتى استيلاء على الإرث السابق في الفضاء المسيحي واليهودي، عبر الوسيط السرياني. والمصادرة الخفيّة التي تحرّك هذه المقاربة هي تجريد النبي محمدٍ، ومن ورائه عرب الجزيرة، من كل مزيّة والنظر إليهم كبدوٍ، بلا حضارة!

كما نلاحظ أن هذه المداخلَ، غالبًا، ما تخلط بين المواضيع القرآنية الصرفة وبين المواضيع الإسلامية العامة، مما يجعلنا نتساءل عن الحدود الدقيقة الفاصلة بينهما، وعن وجاهَة معايير اختيار المَداخِل، فبَعضها لا صلةَ له إلا من بَعيدٍ بالقرآن، وكأنه أتِيَ به لملء فَراغٍ وتضخيم حجم الكتاب. وهذا ما يعكس الغموض والالتباس في التعامل مع ما يُراد إلصاقه بالقرآن. ويكفي مثال مادة "سرقة" التي لم يوضح القرآن إلا عقوبَتها المشروطة في آية يتيمة، وما ورد في المادة مأخوذ كله من كتب الفقه ودواوينه. وكذلك مقال "نساء النبي"، اللائي ورد ذكرهنّ أربَع مراتٍ فقط، وغيرها مما يعكس هواجس الفرنسيين الحاليين أكثر من مضامين القرآن، هواجسهم حول المرأة والعنف في الإسلام.

ويحقّ لنا أن نتساءل بمشروعية عن دواعي هذه الظاهرة: ألا تبطن نزعةَ المركزية-الأوروبية وقد تستَّرت بقناع علميٍّ، شفّاف، من أجل السيطرة على المُقدس الإسلامي وإخضاعه لمعايير المنطق الموسوعي. إذ الموسوعة، في حقيقتها، مَسارٌ عقلانيٌّ-منطقي يهدف إلى محاصرة الموضوع وتفتيته وتقسيمه على مداخل جزئية بِغَرض إدراك بنيته. وليست هذه المعاجم سوى تجسيدٍ لهذه النزعة التي تدّعي فهم كل شيء، والقدرة على معرفة أصل الأشياء عبر تَطبيق المقولات المعرفية والصناعة المعجميّة.

ولئن لم يناقش أحد وجاهة هذه المقولات لأنها كونيّة، فإنه يمكن تعرية وظيفتها الاستعلائية التي تتمثل في ادعاء نزع الأسطرة عن الفضاء العربي الإسلامي وسلبه كل قداسة عبر ضرب الأصل الإلهي للقرآن واعتباره مجرّد استعادة لصحف الأولين.. وهذا من أساطير الآخرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

خارج نطاق البحث

عند إنتاج الموسوعات والمعاجم حول القرآن - والإسلام عموماً - في الغرب، تحضر فئتان من المساهمين؛ المستشرقون أو الباحثون من أصول عربية، وكلاهما نتاجات مباشرة لمؤسسات الثقافة الغربية من جامعات ومؤسسات بحث، في حين قلما نجد مشاركات لمتخصّصين عرب في هكذا مشاريع، على الرغم مما يمكن أن يفيد به هؤلاء موسوعات القرآن بمعرفة أعمق للثقافة موضوع الدرس، ناهيك عن إتقان معظمهم إحدى اللغات الأوروبية الكبرى.

المساهمون