هارولد كروكس: في "جنان" الرأسمالية

04 مارس 2015
المخرج في مهرجان تورنتو السينمائي، 2014 (تصوير: أرون هاريس)
+ الخط -

في فيلمه الوثائقي الصادم "الثمن الواجب دفعه"، يسلّط المخرج الكندي هارولد كروكس الضوء على النمو الخيالي لظاهرة "الجنّة المالية" وأثرها على الاقتصاد العالمي وخطرها على النموذج الديمقراطي وقابليته للاستمرار.

يحرص الفيلم، الذي تعرضه الصالات الفرنسية حالياً، على تجنب التقوقع التقني، معتمداً لغةً عينية مبسّطة يفهمها المشاهد غير المختص، وهو يضم بشكل أساسي مداخلات اختصاصيين ومسؤولين كبار في القطاع المالي والمصالح الضريبية وموظفين سابقين في شركات عالمية.

المشاهد غير المختص يكتشف أولاً أن مفهوم الجنة المالية هو أعقد بكثير من تعريفه الشائع كبلد لا يفرض ضرائب (أو يفرض ضرائب، لكن منخفضة للغاية) على المداخيل والثروات التي تصب في بنوكه.

لكل دولة قانونها الاقتصادي الخاص، وقوانين الفضاء الاقتصادي المشترك بين الأمم (الترجمة الشائعة والخاطئة لمصطلح international هي "الدولي") ضبابيةٌ ومتداخلة إلى أقصى حدّ، بحيث تتوقف حدود القانونية فيه إلى حدّ كبير على براعة المحامين، معطوفةً على القرار السياسي للدول التي تشكله.

هذه الضبابية تسمح اليوم للشركات العملاقة العابرة للدول والقارات مثل "أمازون" و"آبل" و"غوغل"، مسلحةً بجيش من المحامين والخبراء الماليين والسياسيين أيضاً، بعدم دفع أي ضرائب تقريباً على أرباحها الطائلة، مراكمةً المال في بنوك "جنّات اقتصادية" لا تمارس فيها في الواقع أي نشاط، على غرار جزُر الكايمان (في البحر الكاريبي) والمان (في البحر الإيرلندي) التابعتين للدولة البريطانية.

ومن الجدير بالذكر أن الثروات الهائلة المخزنة في هذه البنوك ليست أوراق نقد أو قطع ذهب في خزائنها، بل مجرّد معطى معلوماتيّ في أجهزتها الإلكترونية.

يقول أحد الخبراء في الفيلم إن البحر بوسعه أن يبتلع جزر الكايمان دون أن يمس ذلك جنتها المالية. هذه الجنات ليست قابلة للموضعة مكانياً، إذ أنها تمثل ثغرات في الفضاء القانوني الاقتصادي المشترك بين الأمم، والثروات الطائلة التي تراكم فيها (بين 10 و15 بالمئة من رأس المال العالمي وفق تقدير سنة 2010) منعتقةٌ من المادة. هذا المصطلح يتكرر بانتظام في الفيلم. حتى عهد قريب كانت مراكمة الثروات محصورة بشروط المادة، لكن الفيلم يرينا أن الرأسمالية في مراحلها القصوى تترَوْحَن وتتأله متحررة من هذه الشروط.

في الماضي، كان عدد قطع الذهب والفضة محصوراً بما يخرج من المناجم، وكان عدد الأراضي بالنسبة إلى الإقطاعيين محصوراً بحدود المملكة، وعدد العبيد بالنسبة إلى الأسياد محصوراً بخصوبة الكتلة البشرية المملوكة. لكن مع انعتاق الرأسمال من المادة، صار اليوم بوسع نسبة لا تتجاوز 1 بالمئة من قاطني الكوكب وتملك تقريباً 50 بالمئة من ثرواته (وفق آخر التقديرات) أن تراكم في مستقبل غير بعيد أضعاف أضعاف هذه الثروات، وسيكون على الكوكب أن يشقى عبثاً لتسديد دينه المتفاقم.

يبيّن الفيلم لنا أن معدل اللامساواة وتفاوت الدخل بلغ اليوم تقريباً النسبة نفسها التي كان عليها في بداية القرن العشرين أيام الإمبراطوريات الاستعمارية وحقبة ما قبل الجمهوريات وامتيازات النبالة. ليس من النادر أن يتركز كل رأس مال شركة عالمية بيد شخص أو شخصين. هؤلاء هم اللاعبون المحترفون في تلك الكازينوهات المسماة بورصات دولية.

قوانين اللعب في هذه الكازينوهات هي نفسها القوانين المبهمة والمتداخلة للفضاء الاقتصادي الأممي المشترك، ونظام اللعبة مصمم ليعود باستمرار على اللاعبين المحترفين وأصحاب الكازينو والعاملين فيه بأرباح خيالية.

على نحو شبيه بلعبة المونوبولي، أوراق اللعب هي شركات وبنوك ومراكز سكنية، وحين يحصل خلل في النظام وينقلب العداد، ينسحب اللاعبون ويبيعون أوراقهم ليبادلوها بأرصدة آمنة في الجنات المالية، وعندها يغرق العالم في البطالة.

يشرح لنا الفيلم بالتفصيل كيف وصلنا إلى هذا الدرك وكيف تمكّنت المراكز واللوبيات المالية والشركات العالمية من القضاء على نموذج الدولة الراعية الذي ازدهر في المعسكر الديمقراطي بعد الحرب العالمية الثانية ليحلّ مكانه نموذج الدولة المضاربة التي تتصرف كشركة بين الشركات.

صارت الأحزاب السياسية الغربية اليوم مرتبطة عضوياً بالشركات والبنوك العابرة للدول، وصارت هي نفسها تملك أرصدة واسعة في الجنات المالية. وحتى لو حاولت اليوم أي دولة على نحو منعزل وضع حد للمهزلة وإرغام هذه الشركات والبنوك على دفع الضرائب، فمن السهل على هذه الأخيرة نقل نشاطها إلى دول أخرى أكثر تساهلاً ودفع اقتصاد هذه الدولة إلى الانهيار.

لذا يرى كورك أن الحل الوحيد لوقف المحصلة الكارثية، هو بتضامن وتنسيق عالمي عابر للدول والقارات عليه أن يمرّ بتنسيق وتضامن عالمي بين الشعوب أيضاً، و ذلك أمر ليس قريب الحدوث في زمن انبعاث شياطين الهويات القومية والدينية.

المساهمون