"شقة عم نجيب": حبكة أخرى لشخصيات محفوظ

05 ابريل 2018
(من العرض، تصوير: عادل صبري)
+ الخط -

ترك الروائي الراحل نجيب محفوظ (1911 - 2006) أعمالاً ظلّت قابلة للاستنطاق من قبل النقّاد والقرّاء، رغم أنها كانت تتمحور حول المجتمع المصري في فترة بعينها. في مسرحية "شقة عم نجيب"، التي تُقدّم حالياً على "مسرح الغد" في القاهرة، يستنطق الكاتب المسرحي سامح مهران بعض أعمال محفوظ، تحديداً الواقعية منها، تلك التي تناولت المجتمع المصري منذ مطلع القرن الماضي وحتى العقد السابع منه تقريباً، في عملية إحياء لبعض شخصياتها ووضعها في حبكة موحّدة.

عباس وسعدية، زوجان من الطبقة الوسطى، يعانيان أزمة البحث عن شقّة وسط الارتفاع الجنوني لأسعار العقارات. خلال إحدى جولاتهما يصادفان إعلاناً عن شقة في حي قاهري راقٍ، فينتقلان إلى المكان المذكور حيث يقابلان أحد المنتمين إلى بقايا أرستقراطية الحقبة المَلكية. هناك نقف على اتفاق غريب بين الزوجين والباشا الذي يُعلمهما أنه توجد أشباح في الشقة، وأن مهمّتهما القيام بطردها، مقابل ذلك سيحصلان على الشقة. لم تكن تلك الأشباح سوى شخصيات من روايات نجيب محفوظ.

يقدّم مهران مشاهد العمل من خلال مجموعة حوارات بدت مفتقرة للديناميكية اللازمة، حتى يندمج المشاهد في العوالم التي يقترحها العمل عليه، سواء خلال الحوار بين الزوجين الذي يُفتتح به العرض، أو خلال حوارهما مع شخصية الباشا صاحب الشقة. يجد المشاهد نفسه أمام حوار تقليدي بين زوجين، يخلو من عوامل إثارة الضحك في مسرحية كوميدية ساخرة بالأساس. فأغلب مقاطع الحوار شديدة التقليدية، تكرّرت أمام المشاهد بحذافيرها مرّات عديدة، يظلّ أشهرها مشهد في فيلم "الأيدي الناعمة" جسّده أحمد مظهر، حيث اختار مهران الاعتماد على "الكليشيهات" نفسها.

من جانب آخر، يتمحور العمل حول الصراع بين القديم والجديد، ولكنه يحصرهما بين مصر في عهد الملكية ومصر عقب "ثورة" يوليو، هذا الصراع الذي يتصاعد في اللقاء بين الزوجين وبين أولى شخصيات محفوظ من حيث الظهور، وهي شخصية أحمد عبد الجواد من رواية "بين القصرين". صراع يترك المشاهد أمام أسئلة كثيرة.

يضع أحمد عبد الجواد الزوجين أمام اختبار العودة إلى الماضي، من خلال الدخول في "الدولاب" الذي تخرج منه الشخصيات أو البقاء في الحاضر. يخرج عبد الجواد ومعه شخصيتان: الأولى أمينة زوجته، وزبيدة "العالمة"، تلك الغانية التي كان يقضي لياليه في شقتها.

يسقط عباس منذ الاختبار الأوّل في الانحياز إلى الماضي، في حين ترفض سعدية. هل كان اختيار عباس انحيازاً للماضي فعلاً؟ وهل كان رفض سعدية انحيازاً للحاضر حقاً؟ بمعنى آخر: هل واجهت سعدية اختباراً حقيقياً؟

عبد الجواد الذي خرج من الدولاب ومعه الغانية الجميلة، مرتدية ملابس مثيرة، هو ما سيفتن عباس الذي سيرتمي تحت قدميها، راكضاً خلفها ليدخل الدولاب. لذا، فإن الأمر جرى إخراجه كانجذاب شهواني، لا علاقة له من قريب أو بعيد بالماضي، من حيث هو فترة يوتوبية يتطلّع أولئك الناقمون على الوضع الحالي نحوها كفردوس مفقود. من هذه الزاوية، فإن سعدية لم تفشل في الاختبار، لأنها لم تواجه اختباراً أصلاً، فهي لن تنجذب نحو زبيدة الغانية، ولم تقدّم لها أمينة أية مغريات بدعوتها للبقاء في كنف الرجل، فلذلك هي لم تختر أصلاً.

يُشكّل اختلاف الوسيط الفني للعمل الدرامي تحدياً أمام صنّاع العمل في تناول شخصيات هي في الأصل آتية من الرواية وبعثها في قوالب المسرح، وهو تحدٍّ يقوم على عدم الوقوع في التسطيح، ويبدو أن العرض قد وجد صعوبة في اجتيازه.

فبعد شخصية "سي السيد"، يظهر محجوب عبد الدايم من رواية "القاهرة الجديدة"، والذي ينصح سعدية بأن تصبح عاهرة وتُنكر اليوم الآخر، في استعادة للصورة نفسها التي تناولت من خلالها السينما محجوب عبد الدايم كمثال مُطلق للقوّاد، لا كشخصية حيّة لها ظروفها الاجتماعية التي دفعتها للوقوع في تلك الحالة من العدمية، وهو ما سيتكرّر مع الشخصيات التي ستظهر تباعاً، بالإضافة إلى أن هذه الاختبارات تختزل المجتمع (القديم) في صورة المجتمع المتهتّك.

بشكل عام، قدّم العمل شخصيات محفوظ كشخصيات تعاني آفة أساسية ومشتركة، وهي آفة الانقسام بين الحرية والضرورة. فبعد الإشارة إلى هذا الانقسام في ظهور "سي السيد" وأمينة وزبيدة، يقدّمه لنا الكاتب بشكل مباشر عن طريق شبح تقابله سعدية، هو من ضحايا هذا الاختبار، حيث قتل الحرية بداخله لصالح الضرورة فانتهى به الأمر كأحد أشباح الشقة. ومع اتضاح حقيقة الصراع بهذا الشكل أمام الشخصية، يبدو الكاتب وقد حصَر هذه الآفة في عصر الملكية، وكأن عصر "الجمهورية" قد تخلّص منها، أو أنها ليست صراعاً أزلياً في النفس البشرية.

غير أن الكاتب المسرحي لم يكن ساخطاً بشكل كامل على ذلك الماضي، بل يأتي أيضاً بنماذج يقدّمها في صور مضيئة، في شخصيتي علي طه من رواية "القاهرة الجديدة"، وريري من "السمان والخريف"؛ العاهرة التي تخلّى عنها البطل عيسى الدباغ. اختيار ريري يبدو امتداداً للتعاطف الرومانسي مع شخصية العاهرة، وهو اختلاف جوهري عن نموذج علي طه، الاشتراكي المثالي الذي لا يقدّم رؤية عملية لمشكلات مجتمعه.

هكذا يبدو العرض وقد تخلّى عن الحيل الدرامية في عرض مضمونه، ليقع في خطابية مباشرة، تبلغ ذروتها في مرافعة علي طه ضد الماضي. بالإضافة لهذه المباشراتية، فإن الكلمات نفسها لم تقدّم جديداً لسعدية العازمة على الهروب منذ البداية، دون لحظة شك أو مراجعة، الأمر الذي يضع "الصراع" موضع تساؤل.

هربت سعدية إذن من الماضي وتجاوزت "الاختبار"، ماذا بعد؟ سعدية - الشخصية الممثّلة للطبقة الوسطى - تعيش صراعاً حقيقياً في مجتمعها الذي تختلف ظروفه عن ظروف مجتمع عصر المَلكية حيث تبادلت الطبقات المستغِلة المواقع، وهو ما يجعل من معركة العمل معركة "دون كيشوتية" تطرح الصراع الواقعي جانباً لتدخل في صراع مثالي.

يُذكر لصنّاع العمل لمحة التجريب المتمثّلة في غياب خشبة المسرح التقليدية، وتقديم العرض حول الجمهور، ونجاح عناصر الإضاءة والموسيقى في تعزيز الجوّ الكابوسي للعرض، والإبقاء على حالة من الدهشة البصرية عند المتفرّج، تتصاعد تدريجياً مع تقدّم العرض. نص سامح مهران أخرجه جلال عثمان، وشارك في أدائه: هبة توفيق، وشريف عواد، وخضر زنون، وأحمد نبيل، ومروة يحيى، وسلمى رضوان، وريهام السيد.

دلالات
المساهمون