"الجغرافيا أقوى من التاريخ"، هكذا يوجز الأثري التونسي عبد العزيز الدولاتي فكرة محاضرته التي ألقاها في "مكتبة دار بن عاشور" في تونس العاصمة، الجمعة الماضي، حيث تطرّق إلى الأسباب التي جعلت من مدينة تونس عاصمة البلاد دون غيرها، بعد أن أخذت هذه المكانة مدن أخرى في عصور متفرقة مثل القيروان والمهدية وقرطاج المحاذية لتونس والتي أصبحت في العصور الحديثة مجرّد ضاحية.
ينطلق الدولاتي من تبيان الخصائص الجغرافية التي تحيط بتونس العاصمة، حيث تتميّز بكونها محاطة بأكثر من حاجز مائي (بحيرة تونس وسبختا السيجومي وأريانة)، كما أنها محاطة بالمرتفعات. هذا الموقع بحسب الأثري التونسي يمثّل أفضل حل للموازنة بين موقع آمن من الناحية العسكرية، وموقع حيوي يتيح المبادلة التجارية مع البر والبحر.
هناك يضيء الدولاتي التصوّرات التي كان تحكم اختيار العواصم في تاريخ تونس، فقد فضّل المسلمون عند وصولهم إلى تونس بناء مدينة جديدة هي القيروان، بعيدة عن البحر الذي لم يكونوا يتقنون الحرب فيه، لكنه يلفت إلى أنه منذ العصر الأغلبي (أول حكم ذاتي في تونس في العصر العباسي) بدأ الحكّام يفكرون في عاصمة أقرب للبحر، وهو ما تحقق في العصر الفاطمي وفيه أنشأت المهدية المطلة على البحر، وأصبحت عاصمة البلاد، وهو ما يشير إلى روح انفتاح خارجي، حيث كانت الدولة الناشئة ذات رغبات توسعية في الشرق وفي جرز المتوسط.
يعتبر الدولاتي أن مدينة تونس تمثّل نقطة الوسط بين هذين الخيارين، فهي على البحر ولكنها ليست مكشوفة، وهو ما يتيح لها أن تكون ذات حيوية اقتصادية وفي نفس الوقت آمنة من الغزو السريع، ولهذا السبب لم تكن تونس لقمة سائغة للغزوات الصليبية، وحتى حين نزل الإسبان فيها في القرن السادس عشر أتاحت لها الجغرافيا البرية سبل المقاومة.
يعود اختيار تونس عاصمة إلى الموحدين القادمين من مراكش في القرن الثاني عشر ميلادي، وفيها بنوا "القصبة" (الحي الذي يضمّ أجهزة الدولة) على شاكلة قصبة عاصمتهم مراكش، لكن تونس لن تأخذ موقعها الفاعل كعاصمة إلا مع انفصال تونس عن المركز المغربي مع الحفصيين حيث ستعرف المدينة أقصى درجات إشعاعها التاريخي.
أتاح هذا العرض الكرونولوجي الذي قدّمه الدولاتي من تبيان كيف تحوّلت مدينة إلى عاصمة، وبالطبع أتاح أيضاً تأكيد أطروحته بأن الجغرافيا هي التي صنعت مركزية تونس على مدى قرون، وليس فقط العوامل التاريخية، فالحكمة البشرية ينبغي لها أن تساير منطق الطبيعة من أجل أفضل استثمار ممكن للمكان. يبقى أن العواصم حتى لو توفّرت لها الظروف الجغرافية الملائمة تبقى مهددة من الداخل بآفات عديدة مثل التناحر الداخلي والفساد والإهمال، وهي أعراض عاشتها مدينة تونس وتعيشها إلى اليوم.