عبد الله شيخو: الكرد والعرب تحت رمانة الترجمة

31 يناير 2017
(عبد الله شيخو)
+ الخط -

هل يمكن أن يكون مشهد الترجمة في مدينة ما كاشفاً لتحولاتها؟ نفكر بهذا ونحن في طريقنا إلى اللقاء مع الشاعر والمترجم عبد الله شيخو بمناسبة إطلاقه مع رفاق له مكتبة ومشروعاً ثقافياً باسم "هنار" يختص بالترجمة والنشر باللغة الكردية في مدينة القامشلي. قائمة الكتب قيد الصدور تتضمن عناوين من لغات مختلفة، العربية في طليعتها، بينها أعمال أدبية معاصرة، ودراسات، وأعمال كلاسيكية، ولعل عنواناً كـ"طبائع الاستبداد" لعبد الرحمن الكواكبي يصدر قريباً بترجمة كردية عن "هنار" يكشف جزءاً من قصة وخلفيات الفضاء الذي يتكون فيه المشروع.

شيخو نفسه مترجمٌ سبق وأصدر ستة أعمال نقلها من العربية إلى الكردية- بينها ثلاثة كتب لسليم بركات، كانت تلك بدايته مع مشروعِ محفوف بالمصاعب، يتصدى له المترجم السوري الكردي المولود في القامشلي عام 1987. بالنسبة إلى شيخو فالترجمة إلى الكردية أقرب إلى مشروع إحياء للغة تعرّضت إلى تهميش طويل متعدّد الأسباب والمصادر، ليس أقلّه منع نظام البعث الكُرد السوريين لعقود طويلة من استعمال لغتهم.

يبدو مشروع شيخو بلا أرضية داعمة، سوى من الإحساس بقيمته والرسالة التي يمثّلها، فلا شيء يدعو إلى التفاؤل في القامشلي التي تبدو الثقافة آخر همومها. صحيح أن الحرب لم تصلها بدمارها المباشر وبراميلها ولكن عوارضها المعيشية ظاهرة بوضوح على المدينة المزدحمة المرهقة وراء توفير أساسيات العيش فيها ضمن "إدارة ذاتية" كردية منذ خمس سنوات.

لكن شيخو يبدو متفائلاً، بالأحرى معتاداً على العمل والإنتاج في ظروف غير مثالية. فأحد كتبه ترجمه أثناء اشتغاله كعامل بناء في بلدة "مدياد" التابعة لولاية ماردين حيث كان يعمل من السابعة صباحاً إلى السابعة مساء، ليبدأ بعدها عمله كمترجم. انتقل بعدها إلى "ديار بكر" ليعمل محرراً في دار نشر "ليس" Lîs، قبل أن يعود إلى القامشلي التي تبدو اليوم أشبه بسجن كبير لأغلب سكانها. فالحدود مغلقة من جهتي تركيا والعراق ومحفوفة بالمخاطر والموت من جهة النظام في دمشق. في هذه البيئة يؤسس شيخو ورفاقه مشروع ترجمة ونشرٍ طموحاً وبمعايير متقدمة.

يقول شيخو لـ "العربي الجديد": "هنار تعني الرمّان بالكردية، والذي تتوزّع حباته على كثير من أوجه الأدب الشفاهي الكردي، وهو مشروع ثقافي مستقلّ متعدّد الاهتمامات، عماده اللغة الكردية والترجمة إليها، وبالتالي تعزيز الثقافة الكردية وأرشفة وحماية مدوّنتها التاريخية. كما يسعى إلى إحياء تراث الكرد وثقافتهم، وتقديمها بأشكال وأنماط مختلفة. وتبدو أهداف المشروع طموحةً حين يتحدث عن "ترجمة الإرث الثقافي العالمي من دراسات، ومؤلّفات تاريخية وأدبية، وأبحاث علميّة وسياسيّة إلى اللغة الكردية، لتصير جزءا من المكتبة الكردية".

وعند سؤاله عن حال الترجمة بين العربية والكردية، لم تخف إجابته قتامة الحال: "الترجمة بين اللغتين العربية والكردية متدنّية، ولأكون صريحاً فأغلب التراجم تتمّ بطريقة عشوائية وغير احترافية. ببساطة، ليس هناك مشروع متكامل للترجمة والتبادل الثقافي والمعرفي بين الكرد والعرب. من المؤلم أن يكون التبادل الثقافي بين شعبين متجاورين حدّ التداخل العميق ضعيفا إلى درجة تنعدم فيها المعرفة أحياناً. ضعف الترجمة والتعارف الثقافي بين الشعبين تسبّب في خلق خطاب سياسي حادّ".

"طبعاً المسؤولية متبادلة"، يضيف شيخو ويتابع "فحين نتحدث عن المثقف الكردي السوري، نرى أنّ هناك تكاسلاً في تعريف القارئ العربي بالنتاج الثقافي والأدبي الكردي - وهنا لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ جُلّ المثقفين الكُرد منصهرون ثقافياً، وبعضهم هوياتياً نتيجة السياسة الثقافية واللغوية الأحادية التي فرضتها سلطة البعث على المجتمع السوري المتعدِّد الثقافات واللغات، حتى أنّنا نتساءل عن هوية مثقّفٍ كرديّ لا يتقن لغته، وغير متعمِّق في تفاصيل ثقافته، وأدبه ومكنونه الثقافي أحياناً".

ويكمل "من الناحية الأخرى نرى المثقف العربي يتعامل مع الكُردي من منظور سياسي فقط. شخصياً لم أسمع بكاتب عربي تعلّم اللغة الكردية أو رغب جادّاً في تعلّمها، أو حتى تعمّق في دراسة الثقافة الكردية وسعى إلى تعريف القارئ العربي بها". أما الآفاق المنظورة للترجمة بين اللغتين والعلاقات الثقافية بين العرب والكرد، فيرى شيخو أنها تعتمد على "وجود نيّة حقيقية للعمل المؤسساتي المشترك بين مثقفي اللغتين".

وعند سؤاله عن كيفية تعريفه للأدب الكردي الذي يكتب اليوم بلغات كالعربية والتركية والفارسية وهل من أدب كردي خارج اللغة الكردية، يقول: "الأدب الكردي اليوم هو أدب إثبات الذات. اللغة الكردية -كحامل لأدب الكرد وثقافتهم- كانت دوماً أسيرة الواقع السياسي الذي يعيشه الكرد، لذلك كان أدب الكرد يتعثّر على إيقاع إنكار الهوية الكردية وحتى الكرد كشعب. لا يمكن لأدب أن ينتعش تحت ظلّ كبت وتقييد الحامل اللغوي. مثلاً، بعد الانفتاح الذي بدأ في تسعينيات القرن المنصرم في تركيا، افتُتِح أول معهد كردي في اسطنبول في عام 1992. أحد المؤسِّسين، الكاتب موسى عنتر، اغتيل في "ديار بكر" بعد الافتتاح ببضعة أشهر، وسُجّلت القضية ضدّ مجهول. قبل شهر من الآن، وصل الحدّ بقانون الطوارئ التركي الحالي -المُعلن من قبل حكومة أردوغان إبّان محاولة الانقلاب- إلى إغلاق المعهد بالشمع الأحمر، وأغلقت كذلك عشرات المؤسسات الثقافية والإعلامية الكردية الأخرى. بالنسبة للكردي، ولكردستان -وطن الطوارئ، كلُّ شيء أسير التقلّبات السياسية والإنكار الهوياتي الذي يطاول الكرد في كُلّ مناحي حياتهم".

ويضيف شيخو مستدركاً: "هذه المقدمة السياسية "الفجة"، التي لا أحبّذها في حوار ثقافي، تقودنا إلى الشطر الثاني من سؤالك: هل من أدب كردي خارج اللغة الكردية؟ نعم، هناك يقف الكردي وأدبه، هناك حيث يستطيع الكتابة بلغة تحتضنه بعد أن مُنعت عنه لغته، فحين أقرأ لسليم بركات، أقرأ ذاكرته الكُردية التي لم يجد غير العربية لغةً يدوّن بها هذه الذاكرة، وحين أقرأ لـ يشار كمال، أقرأ موروثا ثقافيا كُرديا كان مجرّد التفكير في كتابته بالكردية كفراً".

وبالنسبة لتفسيره لعدم وجود مبادرات ومشاريع ثقافية بين الثقافتين/اللغتين العربية والكردية فيقول: "في سورية، أقرأ كثيراً عن حوارات ومبادرات سياسية واجتماعية بين الكرد والعرب؛ أراها دوما جلسات بروتوكولية لالتقاط الصور ورفع الشعارات المبتذلة عن العيش المشترك. لا أعي ما الذي يعنيه "العيش المشترك"؟ ألا نعيش معا؟ تقع قريتي "أبو قصايب" جنوب القامشلي، في عمقٍ سكاني عربيّ تزيّنه قرى كردية مندثرة هنا وهناك. بالنسبة إليّ؛ العيش المشترك هو أن يُمسك مغنّ عربي شعبي كسعد الحرباوي ربابته ليغني أغنية كردية من أغاني الفنان الكردي محمد شيخو هكذا من دون تكلّف ومن دون "عيش مشترك".

تنطلق إلى الذهن مع حديث شيخو مشهدية "منظمات المجتمع المدني" الـNGOs وما خلقته من رطانة جديدة لا تمسّ جذور المجتمع أو حاجاته الحقيقية. وحول هذا يضيف مترجم "السيرتان": "باختصار، ستبدأ المبادرات والمشاريع الثقافية المشتركة حين نتلاقى كما نحن، دون تكلّف وابتذال، دون بعث، دون خطابات سياسية كريهة، دون جمع ما لم يُطرح ولم يُقسّم. هناك إرث اجتماعي يمكن البناء عليه ثقافياً، وعزله عن الخطابات السياسية و"المدنية" الطارئة؛ طارئة وإن حكمت دهرا كالبعث. الآفاق المنظورة لخلق المبادرات تعتمد البناء على التاريخ المشترك للشعبين، الاتصال الاجتماعي والثقافي الشعبيّ الذي يمكن أن يدفع نحو تعزيز التعاون الثقافي".

وعن همومه ككاتب خارج مهمة الترجمة وما يحاول أو يريد كتابته، يقول: "أحبّ كتابة المقال الأدبي. في العربية، قد يكون جنسا أدبياً صعباً، أما في الكردية فيُسمى "Hêçan"؛ أي "تجربة". أودّ ان أكون مجرّبا في الأدب".

أما رؤيته للمشهد الثقافي لـ القامشلي فهي في عيني عبد الله شيخو: "بيئة جافة إلى حدَّ كبير، بيئة تركها البعث لنا إرثاً ثقيلاً. بيئة تحتاج إلى قارئ نهم ومتمكن لتصويب الهرج الكبير الذي يتقمّص الثقافة والأدب، بشكل خاص، قسراً. القامشلي كانت وما زالت مدينة مهمّشة ثقافياً. مدينة تفتقر إلى صالات عرض المسرح، ودور السينما، ودور النشر، ومراكز ثقافية، وصالونات أدبية... هناك محاولات ومشاريع جديدة لتصويب هذا الواقع السيئ، وخلق أرضية ثقافية يمكن البناء عليها، لكنّها تحتاج وقتا لتثمر. بشكل عام أنظر إلى المستقبل الثقافي بإيجابية، مرتاباً أحياناً، وخائفا حينا آخر".


حديقة المترجم

يرأس عبد الله شيخو تحرير القسم الكردي في مجلة "سورمَي" (النبيذ الأحمر) وهي مجلة ثقافية فكرية تصدر باللغتين العربية والكردية. ويقسم وقته بين التحرير والمشاريع الثقافية كما في مشروع "هنار"، إلى جانب الترجمة التي قدّم فيها ستة أعمال أدبية من العربية إلى الكردية؛ من بينها "السيرتان" و"موتى مبتدئون" لسليم بركات.

كما أصدر شيخو العام الماضي مجموعة شعرية باللغة الكرديَّة تحت عنوان "بوغي بريفا" (الصورة) وفيها يستعيد شخصية شعبية تحمل الاسم نفسه، من قرية "بريفا" القريبة من مدينة عامودا، عاش صاحبها في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وعُرف بين أهل عامودا وقراها بقوته الجسدية وعلاقته الطيبة مع الناس؛ وحوّلته بعض المرويات الشعبية إلى ما يُشبه البطل الأسطوري.

المساهمون