شاعت منذ عَقديْن نظرية "الجندر"، وقُدّمت على أنها سبْق معرفيّ غربيّ، في مجال الإنسانيات، يربط جنس الإنسان ببيئته الثقافية وتأثيراتها الحضارية والاجتماعية، لا بالمكونات الفيزيولوجية.
وبناء عليها، دعت بعض التيارات إلى إصلاح الألسن الأوروبية، بل وغيرها من ألسن العالم، إبعاداً لمظاهر التمييز الجنسي بين الذكر والأنثى، وإنهاءً، فيما زَعَمت، لصلف الثقافة الذكورية.
وقد وصلت السذاجة ببعض هذه التيارات إلى اتهام الضاد بالتمييز الجنسي وترسيخ هيمنة الرجال على النساء، في خلط سريع بين مقولات النحو وأفراد المجتمع. ولا تزال الأبحاث اللسانية والأدبية حول تنازع الجنسين جاريةً، ممزوجة بالسياسة وتلاعبها.
وقد سبق لجلّة اللغويين العرب تناول هذه المسألة، منذ قرون، حين نظروا في ظاهرة التأنيث والتذكير، ساعين، رغم ما في كلامهم من تناقضٍ، إلى استنباط قواعد عقلانية صارمة تحكم هذا المسار النحوي-المعجمي، الذي هو في المنشأ مواضعةٌ واعتباطٌ. وجهدوا في رسم قوانين عامة تضبط إيقاع اللغة واستعمالها على الوجه السليم نحوياً ومقامياً.
ومن هذه الأعمال الطريفة، على ما فيها من ماضويّة وتعقد، كتاب "المعجم الـمُبتكر في بيان ما يتعلق بالمؤنث والمذكر"، الذي أنجزه عالِم مستعرب، من أصول هنديةٍ، لعله من آخر أفراد ذلك الرعيل الذي يتميز بسعة المعارف اللغوية والتمكن من أمهات المعاجم الكلاسيكية، فضلاً عن كتب النحو، وإتقان ما فيها من المباحث والتوجهات. اسم هذا الشيخ ذو الفقار أحمد النَّقَوي، وقد عاش في القرن التاسع عشر وتوفي سنة 1899، بمحمية بهوبال الهندية، حيث طبع كتابه سنة 1880، وكانت وقتها المطابع عزيزة والمطبوع نادراً.
وقد خَصّص النقوي فصوله العديدة للقضايا اللسانية الشائكة التي تتصل بالجنس في مستوى اللغة مميزاً، منذ المبدأ، في الاعتبار الجنس اللغوي عن وضع المرأة والرجل في المجتمع وهو ما يشتبه على الكثير من الدارسين. وقد سار في معجمه على نهج القدماء من حيث ترتيب المعاجم واستفاد من أعمال مَن سبقه، وهم عشرات، ومنهم الأصمعي والمُبَرد، وابن جنّي وابن حاتم السجستاني وابن الانباري، والمفضل بن سلمة، والفراء، وابن فارس والتستري وغيرهم. وجلهم تعرّض للقضية من غير تخصّص على خلافه، فقد توسع، في كتابه الذي تزيد صفحاته على الستمئة صفحة، في مسائل من الثقافة والفكر والنحو وضَمَّن تلك العروض النحوية الصرف حكاياتٍ وفوائد ومساجلات ودقائق جعلت من هذا المعجم موسوعة شاملة للجنس، وبيان أصوله ومظاهره وتصاريفه.
والطريف أنه حاول تعليل ازدواج جنس الكلمة الواحدة بأسباب تعود إلى لهجات العرب إذ كانت بعض القبائل تذكّر كلماتٍ في حين تؤنثها أخرى، أو بالاعتماد على مبادئ المجاز في التذكير والتأنيث، أي أن تكون الكلمة مُذكراً، في واقع اللغة، ولكنها تؤنث مجازاً وتوسعاً في الكلام وتفنناً.
وقد أفرد فصولاً خاصة لكل مسألة مقحماً فيها استطرادات ثقافية، مما أعطى معجمه طابعاً ممتعاً، من ذلك أنه توسع في دراسة أسماء الخمر وأنواعها وما يتصل بها من الناحية اللغوية والشرعية. وغير بعيد من ذلك فصلٌ خصّصه للحديث عن صفات النساء وشذرات طويلة تعدّ أعضاء جسم الإنسان واحداً واحداً مع بيان ما يطرأ على أسمائها من أحوال هاتين المقولتَيْن.
وكما هو شائعٌ، فقد حلّى النقوي كتابَه هذا بالعديد من الأبيات الشعرية والآيات القرآنية وقِطع من النثر المرسل، كالمقامات والمناظرات، حتى يدعم ما يذهب إليه من الآراء ويقوّي تأصيل الكلمات في الذاكرة الأدبية.
وبالجملة، فالمعجم موسوعة ضمّت بين جنباتها كل مواضعات الضاد المتعلقة بأجناس الأسماء، إذ مدار الحديث كله على الكلم لا على الأشياء، وهي لا توافق أجناسَ الموجودات، في تأكيد قاطع على أن الجنس مقولة اعتباطيَّة، لا يمكن تعليلها عقلانياً، لا بمبادئ النحو فقط ولا بمعطيات الثقافة وإلا وقعنا في الدور والتسلسل، بل وفي التناقض. دليل ذلك أن العديد من الكلمات تذكّر وتؤنث وأنّ استعمالات العالي من الكلام تخرج عن الجنس المقرّر في المعجم كمثل الآية الشهيرة: "إنَّ رحمة الله قريبٌ" حيث ذُكِّرت الرحمة. ذلك، أن أخطر المحاذير تعليل الجنس النحوي بآليات الثقافة وتفسير المبدأ القائل "الأصل في الأسماء التذكير" بأنه انعكاس لهيمنة الذكر في المجتمعات القبلية وهذا من بادئ الرأي وضعيفه.
ويلحق النظرَ في هذه القضية مبحثان حديثان: يتصل الأول ببيداغوجيا الجنس النحوي وطرائق تدريسه سواء للتلاميذ والطلبة العَرب أو لغيرهم من الناطقين بغير الضاد، وكلاهما يلاقي بعض الشطط ليس فقط في تعيين جنس الكلمة وما يقتضيه وضعها ضمن تصريف الكلام، وجمعها ومطابقة العدد بمعدوده. ويتصل الثاني بصُنع المعاجم وبسط الإيضاحات طيَّ المداخل التعريفية التي لا تتضمن، ويا للعجب، أية إشارة إلى جنس الكلمة على عكس المعاجم في اللغات الأوروبية وكلها يتضمن حرفَيْ M أو F في إشارة دقيقة إليه.