هنري لاوست.. دراسة في تعددية الفرق الإسلامية

08 أكتوبر 2024
يبحث الكتاب في ظاهرة الفِرق في الإسلام من خارج الإطار التقليدي المتَّبَع
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يتناول كتاب "الفرق في الإسلام" للمستشرق هنري لاوست الفِرَق الإسلامية بموضوعية، مستعرضًا الفِرَق الكلامية والفلسفية والصوفية عبر العصور، مع التركيز على تأثير الأوضاع السياسية.
- قسّم لاوست الكتاب إلى نهجين: تاريخي من عهد الصحابة إلى العصر الحديث، وجغرافي يدرس الفِرَق من الهند إلى المغرب، مبرزًا العلاقات المتبادلة بينها.
- يشدد لاوست على أهمية التعرف على التراث الإسلامي، ويُعتبر من أبرز المستشرقين المهتمين بالتراث العربي، حيث درس في عدة دول وكتب عن شخصيات إسلامية بارزة.

ضمن سلسلة "ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدرت النسخة العربية من كتاب "الفرق في الإسلام: مدخل إلى دراسة الدين الإسلامي" للمستشرق الفرنسي هنري لاوست بترجمة الكاتب اللبناني راضي علوش. 

ويشتمل هذا الكتاب على مقدمة وأحد عشر فصلًا وخلاصة تبحث في الفِرَق الإسلامية من وجهة نظر مستشرق فرنسي اشتُهر بأنه يكتب عن الدين الإسلامي بحيادية وموضوعية؛ إذ تعرّف إلى الإسلام والمسلمين عن قُربٍ بعد أن عاش معهم ونهل من كتبهم، وكتب في علمائهم وتراثهم وتاريخهم. 

ويبحث في ظاهرة الفِرق في الإسلام من خارج الإطار التقليدي المتَّبَع، وذلك بتبيين فهْمِ كلٍّ منها للإسلام في سياق زمانها، فضلًا عن المشترك والمختلف في فهم كل فرقة مقارنةً بالفِرق الأخرى، من دون اتخاذ أي منها "أنموذجًا" يُحتذى ويُنطلق منه في الحكم.

قسّم لاوست كتابه بحسب نهجين: الأول طولي تاريخي، والثاني أفقي جغرافي

ألَّف لاوست كتابه بطلب من دار "بايّو" للنشرPayot، التي أصدرت منه بالفرنسية طبعتين (الأولى عام 1965، والثانية عام 1983)، لكنه لم يستجب لطلبها إلّا بعد تردّد وإحجام مبعثهما أنّ الأمر مشروعٌ فائق الجرأة، وعندما قرر خوضه "بالأمانة تجاه نفسي" كما يقول في مقدمة كتابه، وجّهه إلى الطلاب الغربيين عمومًا والفرنسيين خصوصًا، لما يفتقرون إليه من مؤلفات تعمّق معرفتهم بالدين الإسلامي؛ وذلك انطلاقًا من إيمانه بمسؤولية الأوروبيين الأخلاقية عن إرساء علاقات تفاهم متبادل مع العالم الثالث "الجار" والدين الأهم فيه، كما أراد له أن يكون مؤلَّفًا يقدّم تعريفًا متكاملًا للدين الإسلامي في تحقُّقِه التاريخي المتمثلِ في الفرق والطوائف الإسلامية المختلفة، وفهْمِ كلٍّ منها للإسلام في سياق زمانها، مع الإشارة إلى أنّ في هذا الفهم ما‎ ‎هو مشترك بين الطوائف جميعها، وفيه ‏ما‎ ‎يميز بعضها من بعضها الآخر تمييزًا قد يتسع أو يضيق، وهو ما سماه "تعددية في إطار الوحدة".

قسّم لاوست كتابه بحسب نهجين: الأول طولي تاريخي، من الزمان‎ الأقدم إلى ما‎ ‎يليه، ابتداءً من عهد الصحابة ‏وانتهاءً بالعصر الحديث. والثاني أفقي جغرافي، وفيه يرصد فِرَقَ الزمن ‏الواحد وأماكنها المتنوعة (من الهند إلى المغرب)، ويسجل ‏اختلافها وأهم أعلامِها ومقولاتِها وآرائِها بإيجاز غير مخلٍّ. وقد نأى بنفسه عن جعل ‏أي طائفة معيارًا لتاريخ الفرق الأخرى، فكان يسرد المقولات ‏ الزمانية والمكانية لكل فرقة‎‎، ‏وعلاقاتها بالفرق الأخرى، ويعرّف كل منها ‏بما‎ ‎تخالف به غيرها، مركّزًا جهده على الفرق الكلامية الكبرى، ثم الفرق ذات العلاقة بالفلسفة ‏والتصوف.‏

هدف الكتاب إلى إبراز العلاقات المتبادلة بين الفرق والمذاهب والمدارس التي عارض بعضُها بعضها الآخر

إنّ كتاب الفرق ‎بمنزلة عرضٍ تاريخي بانورامي، أشبه بخريطة ذهنية شاملة ‏لسيرورة المدارس الكلامية والفلسفية والصوفية في الإسلام، من دون التعمق في ‏تحليل أقاويل أي فرقة على نحو تفصيلي، بل إنّ المؤلف يذكر ‏ما‎ ‎يرى أنه الأهم من أقوالها في ظل الأوضاع ‏السياسية التي عاشتها، رابطًا الأشخاص بالأفكار والأحداث بطريقة مميّزة من شأنها أن تسهّل البحث للدارسين؛ طلابًا مبتدئين كانوا، أم قرّاءً مهتمين، أم علماء ‏متخصصين، فهو لم يَدَع - وإن تجنب الإفاضة في كلامه - الإشارات واللفتات التحليلية العابرة، بحسب بيان المركز العربي.

وهدف الكتاب إلى إبراز العلاقات المتبادلة بين الفرق والمذاهب والمدارس التي عارض بعضُها بعضها الآخر، على الرغم من انتمائها كلّها إلى المنظومة الدينية ذاتها. ولئن كانت حقبة الخلافتَين الراشدة والأموية مهمة في ولادة الانشقاقات الأولى وتشكُّل البناء التركيبي للإسلام نفسه، فقد فتحت أدبيات العصر العباسي باب الانشقاقات الإسلامية وكرّست بقاءَها واستمرارها على مختلف الصُّعُد المذهبية العقدية؛ مع الشيعة وكتّاب الحقبة البويهية (الشيخ المفيد، وأبو جعفر الطوسي، وغيرهما)، ومع السنّة (أبو حامد الغزالي، وفخر الدين الرازي)، ومع التصوف (الجنيد، وأبو طالب المكي، وابن عربي)، ومع المعتزلة (القاضي عبد الجبار، وابن أبي الحديد).

يستبعد الكتاب طريقة البحث هذه ويركّز على الخلافة الراشدة من خلال إبراز عصر ازدهار عقائدي مكثف ارتبط لاحقًا بالهلينية في زمن الأمويين وطلائع العباسيين، ويتتبَّع ذلك منذ ترسيخ مذهب السنّة في زمن المتوكل، إلى ما أحدثته الحملة الفرنسية من أثر نهضوي غربي، وولادة كتّاب ومؤلفين من الطراز الأول في العصر المملوكي. أما التاريخ العثماني، فهو في نظر المؤلّف لا يزال يثقل عالمنا الحاضر بشدة، على الرغم من أنه لم يُدرَس جيّدًا، ثمّ إنّ النهضة الشيعية الأهمّ، التي ربط الصفويون اسمَهم بها، متعلّقة على نحو وثيق بدراسة الوقائع المعاصرة. وأخيرًا، شهد القرن التاسع عشر أشكالًا من الإصلاح الديني والتحديث أثّرَا - ولا يزالان يؤثّران - في المجتمعات الإسلامية.

يختتم المؤلّف مقدمة كتابه بإبداء رأيه المتمثّل في أنّ الإسلام دين لن يستنفد رسالته تحت أي ظروف ورغم أيّ صعوبات، ويرى أنه من المهم أن يسارع الناس إلى التعرّف إلى ما ينقله إلى أتباعه من تراث وعادات وتقاليد وتطلعات.

يُذكر أن هنري لاوست (1905-1983) من أبرز المستشرقين المُعتنين بالتراث العربي والإسلامي، ولا سيما مدرسة الحنابلة وأحمد بن تيمية، ومن أقربهم إلى الإنصاف والموضوعية، لاختلاطه بالعرب والمسلمين منذ أن كان يافعًا. فقد درس مرحلته الثانوية في مدينة الرباط، ثم عاد إلى باريس والتحق بمدرسة المعلمين العليا تلميذًا، ثم طالبًا في كلية الآداب بجامعة السوربون، وحصل على "الليسانس" في اللغة العربية، ومثلها في الفلسفة، لينتقل إلى دمشق ملحقًا بالمعهد الفرنسي، ثم إلى القاهرة خلال خمس سنوات، وفيها اتصل بالحركة السلفية ممثلةً برشيد رضا، وتعرّف إلى فكر ابن تيمية، فدبّج فيه رسالتيه بخصوص الدكتوراه، اللتين طبعهما المعهد الفرنسي للآثار الشرقية. وبعد عودة لاوست إلى دمشق وتعيينه مديرً للمعهد الفرنسي فيها، أصدر عشرات العناوين المتعلقة بسورية، وإضافةً إلى كتابيه في الإسلاميات المذكورين آنفًا، له عدة مؤلفات، منها: (1970) La politique de Ghazâlî (لم يترجم إلى العربية، وترجمة عنوانه: السياسة عند الغزالي). وقد ترجم لاوست إلى الفرنسية رسالتَي ابن تيمية العقيدة الواسطية والحسبة، وله كتابات عن إسماعيل بن كثير، وحقق الإبانة الصغرى لابن بطة العكبري.
 

المساهمون