المتنبي.. الحياة خارج خزانة القصيدة الطويلة

17 مارس 2018
(تمثال المتنبي في بغداد)
+ الخط -

في الشعر العربي القديم كثير من القصائد القصيرة المبثوثة في متن قصيدة طويلة. في هذا المقال، الذي يتناول إحدى قصائد المتنبي، وفي مقالاتٍ تالية، محاولاتٌ قرائية ونقدية لاكتشاف القصائد القصيرة، والخروج بها إلى حياةٍ في الخارج من خزانة القصيدة العربية الطويلة.

أمِيرٌ، أميرٌ عليهِ النّدى .. جَوادٌ، بخيلٌ بأن لا يجودا/ يُحدَّثُ عن فَضلِهِ، مُكْرَهاً .. كأنّ لهُ منهُ قلْباً حَسودَا/ ويقْدِمُ إلّا على أنْ يَفِرّ .. ويَقْدِرُ إلّا على أن يَزيدا

المتنبي

هذه أبياتٌ ثلاثة؛ هي الخامس، والسادس، والسابع، من قصيدة أبي الطيب المتنبي التي مطلعها "أحُلماً نرى، أم زماناً جديدا". وهي قصيدة مديح قيلت في الثناء على بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني.

الأبيات مسبوقة بأبياتٍ، هي الأخرى، تنشغل بالغرضِ الأساس للقصيدة، إذ تُعنى بالثناء على الممدوح، وهي (الأبيات المختارة هنا) متبوعةٌ بأبياتٍ شعرية أخرى يواصل فيها أبو الطيب ثناءَه أيضاً على ممدوحه.

وحدةُ الغرض في القصيدة العربية القديمة، كما هو معروف، لا تكفي لتقيّدَ القصيدة بموضوعٍ واحد لا تتعدّاه إلى سواه. وقد لا نعدم أن نصادف في عمل الشاعر القديم، بقصيدةٍ واحدة، أكثرَ من غرضٍ (ثانوي) فيها سوى غرضها الأساس.

المقدمة الطللية التي تتصدر، في العادة، معظمَ قديمِ الشعر وقصائدِه، هي أيضاً تنويعٌ في الغرضِ، إنما الأكثر من هذا التنويع في الغرض هو التغيّرُ في الموضوع الشعري. ففي تلك المقدِّمات الطللية يمكن للقارئ أن يقف على أكثر من موضوعٍ واحد في المقدِّمة الواحدة للقصيدة. لكن حتى حين يكون غرضُ القصيدةِ واحداً، ويتخلى فيها الشاعر عن أغراض ثانوية، كالمقدمة الطللية، أو أية مقدمات تنويعية وعاطفية، كما هو شأن هذه القصيدة للمتنبي، فإن القراءةَ يمكنها أيضاً مصادفةُ أكثرَ من موضوعٍ واحد. الغرضُ، طبعاً، هو غير الموضوع.

الغرض الشعري واحدٌ في قصيدة (أحُلماً نرى، أم زماناً جديدا)، وهو الثناء على الممدوح، حيث تنشغل القصيدة من بيتها الأول حتى البيت الأخير بالغرض ذاته، بينما الموضوع الشعري يتغير على أكثر من طبيعة ويتنوّع. بتغير الموضوع تمكنُنا مصادفةُ قصائد قصيرة وذلك كلما اعتنى شاعر بموضوعٍ معين، وكلما كان اعتناؤه قادراً على إنتاج نصٍّ يكون مكتملا بذاته ضمن نص القصيدة الطويل.

تتخلى هذه القصيدة عن المقدّمات، وتدخل غرضَها مباشرةً، لكن هذا الغرض الواحد، وقد يبدو موضوعاً واحداً، ينطوي في واقعِهِ على عدد من الموضوعات التي توظّف لكلٍّ منها عدداً من الأبياتِ التي تنشغل بغرضٍ واحد. ما يجمع هذه الموضوعات المتعدّدة في القصيدة الواحدة هو تعبيرُها عن غرضِ القصيدة، إنّما بكيفية نوعية خاصة.

الغرضُ والموضوعُ وظيفتان مختلفتان في الشعر، بالأخصّ في قديم الشعر العربي؛ الموضوعات وسائل، قد تكون مختلفة ومتباينة، لبلوغ الغرض الذي هو نتيجة، بينما تعدّد الأغراضِ الثانوية في القصيدة هو محاولةٌ أخرى للتنويع، وقد تكون أشدَّ وضوحاً للقارئ والمستمع من تعدّد الموضوعات الشعرية في مجمل القصيدة.

***

في واحدة من قراءاتي لهذه القصيدة، وأعتقد أني قارئ مواظب على إعادة قراءة أبي الطيب المتنبي، والاستماع لقصائده، أخيراً، بفضل ما أتاحته التقنيات الإلكترونية، وقفتُ عند هذه الأبيات الثلاثة على أنها قصيدة مكتملة.

ثمة ما يوحِّدُ الأبيات، ويميِّزها بعد ذلك عما سبقها وما تلاها من أبياتٍ، تتّفق معها في الغرض (المديح)، إنّما تتميز بينها بخصيصةِ الموضوعِ الجامع لطبيعة الشعر فيها، أي في هذه الأبيات الثلاثة.

طبيعةُ البناء اللغوي هي ما يوحّد الأبيات ويجمعها. تبدأ القصيدة، وتستمر بأبياتها الأربع الأولى، بضمير الجماعة المتكلّمين: أحُلماً نَرى، أم زماناً جديدا؟ .. أم الخَلقُ في شخصِ حيٍّ أُعيدَا؟ وذلك قبل أن تتحوّل في الأبياتِ الأربع المختارة إلى التعبير عن ضمير الغائب المفرد (الممدوح)، فيما تتحول القصيدة بعد هذه الأبيات إلى استخدام ضمير المخاطب الذي يهيمن على ما تبقى من أبيات، إنها قصيدة موضوعة لمخاطبة الممدوح ولإنشادها في حضرته: كأنّ نَوالَكَ بعضُ القضاء .. فما تُعْطِ منهُ نجِدْهُ جُدودَا

هذا التحوّل في الضمائر في أبيات القصيدة الخمسة عشر هو بعضٌ من فلسفةِ بناءِ مشهد القصيدة العام المتكون من ثلاثِ حركاتٍ تصويرية (المتحكّم بها هو استخدام الضمائر والتحوّل فيها). تبدأ الحركة الأولى بلحظة التعبير عن اكتشاف سجايا الممدوح، ثم تمضي الحركة الثانية (ممثَّلَةً بالأبياتِ المختارة) بالاستغراق بتعدادِ هذه السجايا على وفق طبيعة تعبيرية خاصة (سنقف عليها بعد قليل) قبل أن يتحوّلَ الشاعرُ، بعد ذلك، إلى الحركة الثالثة والأخيرة في القصيدة حين يتجه إلى مخاطبة الممدوح الطبرستاني مباشرة مُثنياً عليه.

ما يهمنا هنا هو تقنيةُ تعبيرٍ لغويٍّ خاص تكرّسُها الأبياتُ المختارة (الخامس والسادس والسابع)، وهي الأبيات التي يهيمن فيها ضميرُ الغائب المفرد، كنايةً عن الممدوح، حيث يستغرق المتنبي بتعداد خصاله.

يعمَد أبو الطيب في هذه الأبيات إلى استخدام طبيعةٍ تعبيرية تبلغُ معناها الشعري من خلال جمع الشاعر لـ(تنافر الصفات) في بيت واحد، من خلال بلوغ المعنى المراد وذلك بالإتيان بما يناقضه في الصفة ويختلف معه، وبترادفِ النقيضين؛ (جواد، وبخيل)، (أميرٌ، وعليه أمير)، (يَقدِم، ويفِرّ)، (يقدر، فلا يزيد).

يريد الشاعر شيئاً فيأتي بنقيضه ليبلغ به ما يريد. وهذا إجراء تعبيري يشتدّ وقع مفارقته من خلال الإلقاء (القصيدة العمودية موضوعة لتقرأ وتسمع)، خصوصا إذا ما استخدم المُلقي الوقفات الصوتية، وإذا ما استعان بالنبرات لتأكيد مفارقة ما يريد، وهذا مما يفعله منشدو الشعر عادةً.

كيف يمكن التمييز مع هذا الترادف في كلمة (أمير) في صدر البيت الخامس: (أمير أمير عليه الندى) ما لم نضع بالإملاءِ فارزةً ما بين أمير وأمير (أمير، أمير عليه الندى) وما لم يصمت المنشدُ لهنيهة ما بين الكلمتين ليساعد المستمع على أن يقف على المعنى المراد. كان هدف الشعر الأساس هو أن يُسمع، وكان هذا هو ما يؤكد أهمية طبيعة التصويت وفواصل السكوت والمدّ بالنسبة لمنشد الشعر ومَن يتلوه. لا بد من لحظة صمت بين كلمتي (أمير)، ولا بد من تركيز صوتي على ثانيهما لتسهيل إيضاح المعنى للمستمع.

المعنى الشعري المراد هو أن الممدوحَ أميرٌ، لكن الندى (السخاء والجود) هو الأميرُ على ذلك الأمير الممدوح. (أمير) مبتدأ، فيما (أمير) الثانية هي أيضاً مبتدأٌ إنما ثانٍ، وإعراب بقية الصدر وصلته ببعضه معروف.

***

هذه الأبيات المختارة تكفي لأن تكونَ قصيدةً مكتملة، إنما من منظور قراءة معاصرة.
في الموروث لا تُعدّ القصيدةُ قصيدةً ما لم تكن أكثرَ من سبعة أبيات.
وحدةُ الموضوع واكتمالُه ما كانا معياراً يُركن إليه لتقرير ما إذا كان النص قصيدة أم لا.

نعم، كان يمكن للعربي أن يكتفي بما يشاء الاكتفاء به من أبيات. أحياناً يكتفي ببيت شعري واحد، أو بيتين، للتعبير شعرياً عما يريد، وحتى في القصيدة الطويلة كان هناك ما يسمى بـ "بيت القصيد"، وهو البيت الأكثر توهجاً والأغنى اكتمالاً بالمعنى والأشد تعبيراً عن مركز القصيدة والإشعاع بمبتغاها ومرادها. لكن القصيدة، بمنظور النقد العربي القديم، وقبله الشاعر العربي نفسه، شأنٌ آخر من معايير الفحولة فيه التطويلُ.

في متون القصائد العربية القديمة الطويلة تمكن، بموجب قراءتنا المعاصرة، مصادفةُ الكثير من القصائد القصيرة التي تقدّمها أبياتٌ محدودة منها. إنها أبياتٌ تكون من التكثيف والاكتمال، فنياً وتعبيرياً، بحالٍ يساعد على أن تُعَدّ قصيدة، كما في هذه الأبيات المختارة.

***

كان العربيُّ، قديماً، يريد تراكمَ المعاني في القصيدة. ولعلّ واحداً من شروط توصيفِ البيت الشعري هو كونه وحدةً مكتملة تعبيرياً، وبما كان يجعل من تدوير المعنى إلى بيتٍ تالٍ عيباً مما لا يُستساغ قبوله في القصيدة. يكون البيتُ الشعري تاماً أو مجزوءاً بموجب تفاعيله، وليس بموجب معناه الشعري.

المعنى الشعري لا يفضَّل له التجزئة والامتداد على بيتين أو أكثر. اكتمالُ معنى البيت الواحد والحاجة إلى تعدّد أبيات القصيدة هما ما يساعدان على تكثير معاني الشعر في القصيدة الواحدة، وهما، بموجب قراءتنا المعاصرة، ما يسمحان بإمكانية وقوفِنا على قصائدَ قصيرةٍ في متنِ كثيرٍ من القصائد الطوال.

ما كان عيباً هو داعي أن تكون القصيدة الواحدة خزانةً لقصائد قد يخفت بريقها في الداخل من الخزانة، لكنها ما أن تواجه ضوءَ انفرادِها وحدها حتى لتبرقَ بجمالِ ما فيها. هذا الاختيار هو تجربة في أن تصادفَ الأبياتُ المختارة الحياة، كقصيدةٍ قصيرة، في الضوء، في الخارج من خزانةِ القصيدة الطويلة. إنها قصيدة تعزز وحدتها واكتمالها طبيعة انشغالها اللغوي أولاً، وهو انشغال أدى ثانياً إلى توفرها على نظام تعبيري متماسك ومعانٍ شعرية متفقة على غرض واحد ولمؤدّى واحد.

المساهمون