فوز حسن بلاسم (بغداد 1973) بـ"جائزة الإندبندنت للأدب الأجنبي" البريطانية عن كتابه "المسيح العراقي"، يعنينا جميعاً. ليس لأن الجائزة ينالها كاتب عربي لأول مرة، ولا لأن الكتاب الفائز بها ("المسيح العراقي") مترجم عن العربية، ولا لأن بلاسم اختار العيش نائياً بذاكرته وأدواته الإبداعية في الشمال البعيد (فنلندا)، مضيفاً إلى هويته هوية جديدة، وخارجاً عن دوامة العلاقات الثقافية في المنطقة االعربية.
يعنينا فوزه، وكثيراً، لأن بلاسم لا يشرب القهوة (أو غير القهوة) دورياً مع رئيس تحرير تلك الصحيفة أو مسؤول الصفحة الثقافية ذاك، ولأن بلاسم واجه صعوبات لنشر كتابه الاول (مجنون ساحة الحرية) كونه مجموعة قصصية، ولأن أعماله لم تستوف حقها لدى نقّاد الصحافة العربية.
لكن، فوق كل ذلك، لأن بلاسم خرج عن التقليد السائد في العالم العربي، باختياره التعبير بالقصة القصيرة والخوض في أدواتها واحتمالاتها، وفتح ما أمكن فتحه من نوافذ جديدة فيها وعليها. لم يحصر صوته بالقصيدة ولا لجأ إلى الرواية. وإن أمكن القول إن بلاسم في كتاباته، قصصه تحديداً، لا يلتزم أي شرط أسلوبي أو لغوي ولا يقف عند حاجز مجازي ويستريح.
القصيدة، لهجة الإعلان التجاري، النبرة الساخرة والساخطة في آن، التخفف تارة وشد العبارة والجملة تارة أخرى، عاكساً إلماماً بالرواية وبقراءة كتّاب قصة شبان معروفين جداً عالمياً؛ تجعل منه أقرب إلى اختصاصي كوكتيل في اللغة والمخيلة، في التراجيديا والكوميديا، منقطاً مخيّلته كبذور سكر وسط بحيرة الدمع العراقي، متنقلاً بين اللغة الكلاسيكية واللهجة العراقية الدارجة.
فوز "المسيح العراقي" هو احتفاء بالإمكانية، ووضعٌ للأدب العربي مجدداً في المكانة التي يطمح إليها عالمياً، كما يمثل التفاتة سخية نحو المخيلة العربية تحديداً (نلمس في قصصه المترجمة إلى الإنكليزية جهداً كبيراً للمترجم جوناثان رايت في مضاعفة جمالية النصوص). هو أيضاً احتفاء بأبعاد جديدة للمخيلة العربية، وخيارات لم تعتدها المكتبة العربية. فقد نافس كتابه، في القائمة القصيرة، "رجل في حالة حب" (رواية) للنرويجي كارل أوفي كناوسغارد التي توقع كثيرون فوزها، "انتقام" (قصص) للياباني يوكو أوغاوا، و"طقس غريب في طوكيو" لهيرومي كاواكامي (اليابان) إضافة إلى رواية الألمانية بريجيت فاندربيكي "وليمة بلح البحر" (نالت تنويهاً خاصاً من لجنة التحكيم) و"وجبة في فصل الشتاء" لهوبير مينغاريللي (ترجمت عن الفرنسية).
وبمقارنة تفاعل العالم العربي مع كتابي بلاسم ("مجنون ساحة الحرية" و"المسيح العراقي") بتفاعل الغرب معهما، منذ نقلهما إلى الإنكليزية؛ نجد أن استيعاب أساليب جديدة تحركها مخيلة إبداعية ما، في العالم العربي، لا يزال إما بطيئاً أو مبكراً، كي لا نقول إن وجود مثل هذه الأصناف الكتابية أمر مربك للبعض. وهي مشكلة يشترك فيها نقاد وكتاب وصحافيون وأكاديميون، يبغضون كل جديد ويدفعونه بعيداً عن مكتباتهم وتوصياتهم. وهو أمر لا يقتصر على العالم العربي فقط، إذ نجده في دول أخرى. منها فرنسا. فجان ماري غوستاف لوكليزيو قبل فوزه بنوبل للآداب، كان بعض الأكاديميين الفرنسيين يعتبرون وصول اسمه إلى الترشيحات فضيحة بحق الأدب الفرنسي.
ثمة أعمال قد تفد إلى الورق من الواقع دون أن تنصاع له كلياً. لا تمتثل لأحداثه المتلاحقة والمكثفة، والتي بدورها قد تقترح شخصية مغرية لصوغها أدبياً. في إحدى قصصه، يقول الكاتب الراحل ابراهيم أصلان ما معناه: لا يمكن أن تنقل شخصية أو حادثة تماماً كما هي، من الواقع مباشرة إلى الورق. وقصص حسن بلاسم، تدور في هذا الفلك. إنها تتكئ أولاً على الواقع، كحدث عام، ثم تتلاعب بالظروف وتضع مخيلتها على سكة هذا الواقع، لكي تجره، بكل ثقله وأحداثه وشخوصه وإفاقاته وخساراته وتداعياته السياسية والعاطفية والاجتماعية إلى نوع من التخييل.
يبقى ما يطرحه البعض بشأن اللغة ومدى الاعتناء بها، ودور الترجمة في ستر عيوب وإعلاء استعارة وهاجة هنا أو خاصية أدبية هناك على حساب عمق السرد أو جماليته. كل هذا النقاش جائز. ففوز بلاسم لن يحسم أي جدل. لأنه غير معني بدحض رأي نقدي في أعمال الكاتب العراقي الفنلندي وتكريس آخر. وعليه أن يكون نقاشاً يشق مزيداً من الطرق في الكتابة بدل ردمها.