"ضجيج الزمن": موسيقى شوستاكوفيتش وصناديقه الثلاثة

02 اغسطس 2017
رسم لشوستاكوفيتش، من ملصق أسطوانة "مختارات من أعماله"
+ الخط -

كيف يحدث كل ما يحدث في سورية (والمنطقة برمّتها)، وكذلك الهجمات الانتحارية التي شهدتها بعض العواصم الأوروبية؟ تبدو العناوين التي تعرضها واجهات المكتبات الإيطالية مشغولة بسؤال كهذا، ومنها تتفرّع إلى سبل تنظيم العالم من جديد، وسبر أعماق فكر بات الأوروبيون يعتبرونه تهديداً لمصيرهم، وهو ما يلخّصونه في كلمة واحدة: الإرهاب، مع تلميحات خجولة إلى حامل بؤرته، أي الاستبداد.

دائماً ما يُنظر إلى الاستكانة للاستبداد باحتقار، دون أن يصل الأمر إلى مغامرة البحث عن أصوله وحيثياته. في رواية بعنوان "ضجيج الزمن" (2016)، صدرت ترجمتها الإيطالية مؤخراً عن دار "إيناودي"، يتطرّق الكاتب الإنكليزي جوليان بارنز (1946) إلى قضية الاستبداد.

المشهد الذي يُشكّل خلفية رواية بارنز قاتمٌ، فيما تجري الأحداث في أحد أيام أيار/ مايو في موسكو أثناء الحقبة التي بدأ فيها ستالين إجراء عمليات تطهير شاملة للبيت السوفييتي حديث التأسيس. حكاية رجل (الموسيقي ديمتري شوستاكوفيتش) قلبُه مُثقل بالقلق والتوجّس، يقضي الليل أمام باب شقّته بجانب المصعد. ومثل كل الموسكوفيين المهدّدين بمصائب تلك الحقبة، يملك بحوزته حقيبة صغيرة تضمّ بعض الألبسة والمستلزمات، ويدخّن لفافة تبغ تلو الأخرى بانتظار وصول جلاديه.

كانت الشرطة السرّية آنذاك، تحضر أثناء الليل، والناس كانوا يردّدون حكاية مفادها أن من يقبض عليه في سريره لا يعود أبداً، بينما من يستقبلهم جاهزاً لكي يُساق كالحَمل، كان يملك حظاً أوفر للعودة إلى البيت ولو بعد سنوات طويلة.

يقول الكاتب الإنكليزي في مقابلة مع صحيفة "كورييري ديللا سيرا" الإيطالية: "إنه منظر استثنائي ذلك الذي يتعلق بشوستاكوفيتش حيث بقي ينتظر وصول الشرطة السرّية لعشر ليال متواصلة بجانب المصعد، بينما زوجته الحبلى تنام في سريره. عندما أخبرتُ سيمون راتل، وهو قائد أوركسترا معروف، أنني بصدد كتابة رواية عن ديمتري شوستاكوفيتش، كان أول شيء قاله لي: منظره وهو ينتظر بجانب المصعد، أليس كذلك؟".

يضيف بارنز في نفس المقابلة: "ربما يتساءل المرء ما الشيء الذي جذبني في شخصية شوستاكوفيتش؟ الجواب طبعاً هو موضوع الفن والأدب عندما يصطدمان مع السلطة، وجبن شوستاكوفيتش أيضاً، لأن الجبن هو أكثر إثارة من الشجاعة، فوق كل شيء في الأدب، لأنه يدوم عبر الزمن ولا يستسيغه أحد. أن تكون بطلاً، له جانب آني، تُعرّض نفسك للخطر، تُطلق النار، تُقْتَلْ. ولكن إذا كنت جباناً، فهي حالة تجعلك تعيشها كل يوم".

تذكّر الرواية الجديدة برواية بارنز "ببغاء فلوبير"، التي صدرت عام 1984 وحقّق معها نجاحاً في المبيعات، حيث يتميّز العملان بالبرودة وبسخرية يسبر من خلالها الكاتب الجوانب المظلمة في الطبيعة الإنسانية، كالمشاعر التي لا يمكن البوح بها: الأفعال الدنيئة، الغيرة، جنون العظمة، التفاهة، الخوف من الموت، خيانة الصداقة والحبّ. بهذا الصدد، يمكن القول إن بارنز هو الكاتب المناسب لترجمة مأساة شوستاكوفيتش، عبقري الموسيقى الذي تحطّم على يد ستالين ووافق على تسويات مهينة مع السلطة.

نظم بارنز بنية روايته حول "ثلاث مصادمات مع السلطة" التي أثرت في حياة المؤلف الموسيقي. الأولى تعود إلى شهر كانون الثاني/ يناير عام 1936، عندما ذهب ستالين إلى البولشوي لحضور العرض الرابع والثمانين لأوبرا "ليدي ماكبث من حي مشينسك"، وهي قصة دموية حول الحرية الجنسية في روسيا القيصرية، وكانت تحصد النجاح في أوروبا والولايات المتحدة أيضاً، إلّا أن ستالين لم يستسغ تلك الموسيقى التي "تُهَمْهِم، تلهث، وتشخر"، وترك الصالة قبل نهاية العرض.

في اليوم التالي، خرج مقال على صفحات البرافدا يُدين العمل بقوة، وكان بعنوان "فوضى بدلاً من الموسيقى"، وربّما كتبه ستالين بنفسه، ويحمل إنذاراً شديد اللهجة، إن لم يكن حكماً بالموت، في ما لو تابع الموسيقار على نفس المنوال "يمكن أن تكون نهايته سيئة".

المصادمة الثانية لديمتري شوستاكوفيتش مع السلطة حدثت عندما اتصل ستالين به هاتفياً عام 1948 لـ "يطلب" منه أن يقوم برحلة بروباغندا إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث سيكون الموسيقار مضطراً لإدانة معبوده سترافينسكي، والإصغاء باستكانة إلى إهانات عامة من قبل نيكولاس نابوكوف، ابن عم فلاديمير نابوكوف، وهو موسيقار ذو موهبة متواضعة، وربما عميل لحساب المخابرات المركزية الأميركية.

والثالثة تعود لعام 1960، في عهد خروتشوف، بعد عشر سنوات من الرقابة على أعماله، عندما طلبت منه الحكومة الانضمام إلى الحزب. عندئذ، لم يجد شوستاكوفيتش حلاً سوى اللجوء إلى الكحول والنحيب، ولكنه لم يجد الشجاعة الكافية لرفض الطلب.

إلا أن المسألة الأساسية، في هذا السياق، هي أن مؤلف "السيمفونية السابعة" (عن لينينغراد)، استطاع أن يحتفظ برباطة جأشه وتماسك كيانه الفني. يرى بارنز أن بطل روايته "استطاع، في المستوى الذي سمحت له به الظروف، أن ينتشل نفسه من مواقف صعبة للغاية.

فقد كان يملك نهجاً يدعوه نظام الصناديق الثلاثة. صندوق يحتوي على الموسيقى التي تفضّلها السلطة، وصندوق للأشياء الأكثر حميمية وشخصية، مثل الرباعيات الوترية، التي لم يرضخ فيها لمساومات، وأخيراً الصندوق الأساسي، ذاك المتعلق بالسيمفونيات، التي كانت تتطلب مفاوضات مرهقة مع الحزب لكي يتمكن من تقديمها للجمهور ولكي يحصل على أتعابه أيضاً".

مات شوستاكوفيتش عام 1975 عن عمر ناهز 68 عاماً، ومن ذلك يستنتج بارنز أنه عاش بما فيه الكفاية حياة قلقة، وهو أمر يحدث باستمرار مع الفنانين. فمن جهة يستسلمون للمجد الزائف، ومن جهة أخرى، ينتهون جميعاً تقريباً إلى التصديق بأنهم أكبر ممّا هم في الواقع، وبالتالي يقعون في شرك الخيبة والإحباط.

يقول المؤلف "في أيامه الأخيرة كان شوستاكوفيتش يميل إلى الاعتقاد بأنه موسيقار من الدرجة الثانية يؤلّف أعمالاً مملّة. عدم الثقة بالنفس لدى الشباب لا تُعدّ شيئاً أمام تلك التي يشعر بها كبار السنّ، وربما كان هذا أكبر انتصار حقّقه الحُكّام السوفييت: فبدلاً من أن يقتلوه، تركوه يعيش، وبالتالي تمكّنوا من قتله وهو حيٌّ".


منح صوت لشخصية مهانة

بدأت فكرة كتابة عمل حول شوستاكوفيتش بعد أن قرأ جوليان بارنز السيرة التي كتبها سولومون فولكوف ونشرها في أميركا عام 1979. بالنسبة لبارنز لم يكن همّه أن يتّخذ موقفاً ويحكم على الموسيقار وتسوياته مع السلطة، فهذه مهمّة المؤرخين وليس الروائيين. ما يهمّه هو منح صوت لشخصية مُهانة، والتي يعترف لها بالعبقرية وهو يضيء كيف كان شوستاكوفيتش يجلس بعد تحقيقات شاقّة وطويلة ليؤلّف موسيقاه.

المساهمون