مفكّرة المترجِم: مع بسّام فرنجية

14 يوليو 2019
(بسّام فرنجية في بورتريه لـ أنس عوض، العربي الجديد)
+ الخط -
تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات العالمية المختلفة اليوم. "أترجم ما يخدم الثقافة العربية ويعكس طموحاتنا كأمّة كانت لها حضارة رائدة ومزدهرة طوال قرون عديدة"، يقول المترجِم والأكاديمي الفلسطيني.


■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟ وما أول كتاب ترجمته وكيف جرى تلقّيه؟

- لم يخطر ببالي يوماً أن أكون مترجماً ولا أن أترجِم. وحقيقةً أنا لست مترجِماً محترفاً أو متخصّصاً؛ إذ أقوم بكل ترجماتي مجّاناً، ولا أتلقّى أجراً عليها. وكنت قد بدأت الترجمة بهدف تعريف القارئ الأميركي بالأدب العربي. فحين بدأت أدرِّس اللغة والأدب العربيَّين للطلبة الأميركيّين، لم تكن هناك ترجمات كثيرة متوفّرة، وكنت أبحث عن مواد لائقة تعطي الطالب الأميركي فكرةً عن الأدب العربي. سألت الطلّاب، في إحدى الجامعات، عمّا يعرفونه عن الأدب العربي، فقالوا لي إنهم يعرفون عن جحا وحماره، ويعرفون أن جحا كان يبحث عن حماره الضائع ليكتشف بعدها أنه راكب عليه، كما يعرفون شيئاً عن "ألف ليلة وليلة".

لذلك قرّرت القيام بترجمات من الأدب العربي، بدأتها بقصائد مختارة وفصول من الرواية وأدخلتها في منهج التدريس، من أجل تغيير وتوسيع الصورة الضيّقة لدى الطلبة. كان هذا هو الهدف الرئيسي الذي دفعني إلى الترجمة، ليس إلّا. وبعد هذه الترجمات المختارة والمتنوّعة، ترجمت رواية حليم بركات "ستّة أيام"، وتلقّى العمل قبولاً جيّداً.


■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟

- ترجمت مختارات لعدد من الكتّاب والشعراء العرب، من بينهم: هاني الراهب، وحيدر حيدر، وغالب هلسا، وعزالدين المناصرة، وخليل حاوي، وغسّان كنفاني، وبدر شاكر السيّاب، ومحمود درويش، وأدونيس، وقاسم حدّاد. نُشِرَت الترجمات في مجلّات وكتب ومقالات وأنطولوجيات. أمّا ترجمات عبد الوهاب البياتي، ونزار قباني، وحنا مينه، وحليم بركات، فقد نُشرت في كتب مستقلّة. ومؤخّراً، ترجمتُ قصّة قصيرة لسركون بولص بعنوان "يجوب المدن وهو ميت".


■ ما العقبات التي تواجهك كمترجم من اللغة العربية؟

- ليست هناك عوائق بقدر ما هنالك جَهْد. غالباً ما أقوم بالترجمة مع شريك قدير وضليع بلغته الأم وبالأدب. مثلاً، ترجمتُ رواية حليم بركات "طائر الحوم" وكان شريكي في هذا العمل الدكتور روجر ألن.


■ نلاحظ أن الاهتمام يقتصر على ترجمة الأدب العربي وفق نظرة واهتمام معينين، ولا يشمل الفكر وبقية الإنتاج المعرفي العربي، كيف تنظر إلى هذا الأمر وما هو السبيل لتجاوز هذه الحالة؟

- حسب مهنتي، أولويتي هي الأدب، لأن عملي هو في هذا الحقل. لكني كنتُ من أوّل الداعين إلى إنشاء مركز لترجمة التراث العربي، مركز مستقل يهدف إلى ترجمة الأدب والفكر والإنتاج المعرفي العربي. ذلك لم يحدث، وما حدث هو حصول بعض المؤسّسات والجامعات على بعض المنح العربية أو الحكومية، ولكن هذه لها اهتماماتها وارتباطاتها الخاصّة.


■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟

- بطبيعة الحال، أختار العناوين، كما أختار الناشر. وأعمل مجّاناً ومن دون مساعدات مادية، أو منح، أو دفعات، أو عقود تلزمني. لذا ليست لي علاقة بناشر معيّن. أُرسل المادّة إلى الناشر الذي أختاره بعد إنجاز العمل.


■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقّف عند الطرح السياسي للمادّة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟

- طبعاً، هناك اعتبارات ثقافية وسياسية. أترجم ما يتطابق مع خدمة الثقافة العربية. وأترجم ما يخدم ثقافتنا ويعكس طموحاتنا كأمّة كانت لها حضارة رائدة ومزدهرة طوال قرون عديدة في عصر كانت فيه أوروبا تعيش سنين الظلام. لا أترجم ما يتعارض مع مواقفي السياسية. طبعاً هناك مواقف في الترجمة، وإلا فلماذا أترجم؟


■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟

- أترجم الأدب المعاصر، وكلّ الكتاب الذين ترجمت لهم، كانوا أحياء يرزقون في الزمن الذي كنت أترجم أعمالهم. بعضهم وافته المنية بعد انتهاء الترجمة والنشر. أطال الله في أعمار الذين ما زالوا أحياء يرزقون. الحب والإعجاب والصداقة، هي عناصر أساسية بالنسبة إليَّ في علاقاتي مع الكتاب. من أين يأتي الوحي، وكيف يمكن الاستمرار في الترجمة إن كنت لا تحب الكاتب؟ ولماذا تترجم له إذن؟ على المترجم أن يحب النص الذي يريد أن يترجمه، والنص بدوره يفصح عن شخصية الكاتب ومواقفه. وأنت قد تحب الكاتب أو قد لا تحبّه من خلال النصوص التي يكتبها. وشخصياً، أحببت معظم الكتّاب الذين ترجمت لهم.

أحياناً ترجمت نصوصاً لشعراء وروائيّين تعجبني مواقفهم السياسية ولا تعجبني شخصياتهم. أحببت أفكارهم المكتوبة والمدوّنة على الورق، وهذا يخدم غرضي في خدمة الثقافة العربية. النص أوّلاً، وموقف الكاتب ثانياً، بغض النظر عن شخصية الكاتب نفسه.


■ كثيراً ما يكون المترجِم كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟

- كل ما أنشده هو أن أنقل كلام الكاتب بأجمل شكل يعكس روح النص المكتوب وينقله بجاذبية ومتعة إلى روح ثقافة أخرى. والعمل يهدف إلى إيصال النص المترجَم إلى القارئ المترجَم له، من دون أن يشعر هذا القارئ بأنه يقرأ ترجمة، بل يشعر أنه يقرأ نصّاً بلغته الأم، فلا يتعثّر في الفهم، ولا يتوقّف عند بعض التراكيب في الجمل أو الحبكة أو الأسلوب، وكأنها شيء غريب عليه. الهدف هو أن يقرأ القارئ النصَّ المترجم من دون أن يبدو نصاً مترجماً، ومن دون أن يشعر بأن النص الذي بين يديه منقول من لغة أخرى.


■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟

- لا أتّبع قواعد معيّنة. أختار ما أريده. وأسأل الكاتب الذي أترجم له عن أشياء تبدو غير واضحة لي، وأكون على صلة معه، وهذه متعة تكسر عزلة المترجم. والكتّاب الذين ترجمت وأترجم لهم، كلهم رائعون، ويتعاونون معي بشكل ممتاز. وأنا محظوظ من هذه الناحية. كان الروائي الراحل حنّا مينه، على سبيل المثال، يكتب لي بشكل دوري رسائل مليئة بالحب والصداقة، أثناء عملي على روايته "الشمس في يوم غائم"، وكانت رسائله تثلج صدري وتشعرني أنه بقربي طوال الوقت الذي أعمل فيه على روايته. بشكل عام، بعد ترجمة كل عمل، أراجع النص للتأكّد من أنني سيطرت على معانيه. فإن رضيت عنه أرسله للنشر. وفي معظم الأحيان، أفضّل أن أعيد الترجمة، قبل نشرها، مع شخص ضليع بلغته الأم وبالأدب، ونصبح شركاء في العمل.


■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟

- لم يحدث ذلك.


■ ما الذي تتمنّاه للترجمة من اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟

- أتمنّى أن يكون هناك مركز متخصّص في ترجمة الأدب والفكر والثقافة العربية وفق معطيات واقعية، أي ليس على شكل محسوبيات، يديره أشخاص خيِّرون هدفهم خدمة الثقافة العربية وأدبها وفكرها. كما تمنّيت دائماً أن توجد دار متخصّصة لنشر الأدب العربي مترجماً، دارٌ هدفها تعريف العالم بثقافتنا وفكرنا وتراثنا وأدبنا، دار توجد لتخدم الثقافة العربية. وكنت قد تحدّثت عن هذا الأمر مع أشخاص كثيرين، من دون جدوى. كما طرحت هذه الفكرة مع الشاعر نزار قباني أثناء وجوده في واشنطن، وكان متحمّساً لهذا المشروع الذي طرحته عليه.


■ ما هي المزايا الأساسية للأدب العربي ولماذا من المهم أن يصل إلى العالم؟

- الأدب العربي غني، ومتطور. وهو من أجمل آداب الأمم، وهو الوجه الوحيد المشرق الآن للحضارة العربية. فكلّ شيء عربي هو اليوم إلى السقوط، إلّا الأدب. ولولا وجود هذا الأدب اليوم لكنّا فقدنا كل شيء.

أدبنا العربي هو السلاح الوحيد المتبقّي لهذه الأمّة كي تواصل معنى وجودها في العالم. وهو الشعلة المتأجّجة أبداً، والمشرِّفة أبداً. أشعر بالفخر الكبير عندما يُعجَب الأميركيون بأدبنا ويرون من خلاله الفكر العميق والثقافة الغنية المتراكمة التي صقلته. بينما أخجل من واقعنا التعيس، ومن انحدارنا المستمر. لم يبق ما هو مشرّف للعرب إلّا أدبهم ولغتهم. فليصل هذا الأدب إلى العالم.

لا يزال أدبنا غير مثبت في عمق الوعي العالمي. ومن المهمّ إيصال هذا الأدب إلى العالم، ليغيّر الوعي، وليغيّر الأفكار الظالمة عن العرب، وليبدل الصورة السلبية التي تسكن عميقاً في ذاكرة الآخر. لذا من المهم، بل من الواجب، أن نوصل هذا الأدب وأن نجعله يخترق ذاكرة العالم، بكثافة وتركيز، وباستمرارية جادة، ومتواصلة. الأدب العربي هو الذي سيحدث تغييراً في صلب الوعي الغربي والعالمي، وهو الذي سيعطي صورة مشرقة ومشرفة عن حضارة أمّة كاملة.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يافا في المنفى

بعد النكبة الفلسطينية، بسنتين ولد بسّام فرنجية في مخيّم للاجئين الفلسطينيين في دمشق، وعاش طفولة لا تختلف كثيراً عن طفولة أي لاجئ فلسطيني، بمراراتها وأحلامها.

تخرّج في جامعة دمشق وحصل على الماجستير والدكتوراه من "جامعة جورج تاون"، ليعمل بعدها في هيئة تدريسها وينتقل بعد سنوات إلى "جامعة يـيـل" حيث عمل فيها أربعة عشر عاماً، قبل أن ينتقل إلى "كلية كليرمونت مكينا" في كاليفورنيا.

وإن كان فرنجية لم ير مدينته، يافا المحتلة، إلا في وقت متأخر من حياته وكـ "زائر" بجواز سفر أجنبي، إلا أنه عاش حياته كلها بذاكرة برتقالها.

كان والده يعمل في بيارات يافا، وصار الأب كلّما رأى برتقالة في أرض اللجوء تطفر دموعه. كانت البرتقالة رمزاً لوطنه السليب وهويته. أقسم الوالد ألا يلمس أو يأكل برتقالة واحدة حتى يعود إلى فلسطين. ومات الوالد، خليل فرنجية، دون أن يمس البرتقال ولم يعد إلى وطنه مثل لاجئين كثر ما زال أبناؤهم ينتظرون العودة.

بعد وفاة والده بأعوام شاهد بسّام في السوق الأميركية برتقالاً "مستورداً" من يافا. وقف يتأمله. أمسك البرتقالة. لها رائحة مميزة. بدت له مختلفةً عن البرتقال العادي. لقد فتحت تلك البرتقالة الجراح كلّها دفعة واحدة.. ولم تزل.

من مؤلّفاته: "مقدّمة لفهم الثقافة العربية الحديثة" (2019)، و"أنطولوجيا الفكر والأدب والثقافة العربية" (2005)، و"العربية للحياة" (2012).

ومن ترجماته: "حبّ وموت ومنفى: قصائد مختارة من شعر عبد الوهاب البياتي" (1990)، ورواية "الشمس في يوم غائم" لحنّا مينا (1997). كما ترجم بالاشتراك مع روجر ألن رواية "طائر الحوم" لحليم بركات (2008)، ومع كلمنتينا براون "قصائد حب عربية: مختارات من شعر نزار قباني" (1999).

المساهمون