تميّز المفكّر الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984)، في دراسته لتاريخ تشكّل الظاهرة الصحية والممارسات الطبية عمن سبقوه، إذ تناولها في علاقاتها بالسلطة وبالشروط السياسية والاجتماعية التي أحاطت نشأة المؤسسات الطبية. وربما شكّل وجوده ضمن أسرة من الأطباء، بالإضافة لعلاقته الشخصية مع المرض، دافعاً شخصياً لهذا البحث، الذي قدّم بمحصّلته فهماً معمّقاً وجديداً للجسد والطب والظاهرة البيولوجية.
ففي كتابه "ولادة الطب السريري"، الصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بترجمة إياس حسن، كما في كتبه الأخرى، يحفر فوكو، وهو المحموم بالحفر في المفاهيم، في دور مأسسة السلطة وانتظام المعرفة بضبط الجسد وتطويعه، محاولاً تفكيك آليات هذا الضبط عبر تحليل بنى الرقابة بشقيها المادي والرمزي، وقد اختصّ هذه المرة بالطب وبالسلطة الطبية.
فكما تناول في كتاب "المراقبة والمعاقبة" السجن وعلاقته بنموّ الجسد المنضبط والوديع كنتيجة للعقاب المرتبط بالنظرية النفعية للألم، وكما في "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" الذي ربط نشوء المصحّة بتطوّر حقل الطب النفسي وتقنيات السلطة، يأتي هذا الكتاب مكمّلاً لمشروعه وعاقداً الصلة بين نشوء المؤسسة الصحية وتطوّر ما يسميه المعاينة أو النظرة المتفحّصة، والتي تخوّل للطبيب رسم صورة عما يجري داخل الجسد، والوصول لتشخيص محدد، وعليه يتم نقل المريض من بيئته الطبيعية، أي البيت والأسرة، إلى المستشفى، الذي تحوّل بدوره إلى موقعٍ للسيطرة المكثّفة وتحصيل المعرفة، ما يذكّرنا بحديثه عن السجن.
الطب بين بعدين
يمثّل الطب عند فوكو أحد أهم النظم التي ساهمت في ضبط الجسد وترويضه، وتحديداً في سياق مأسسة الطب وتداخله بالسلطة السياسية التي تتسع فتقحم نفسها بكل مجالات الحياة بحجة رفع مستوى رفاه الأفراد وتحسين جودة حياتهم، فيناقش في كتابه إلى أيّ حدّ استطاعت السلطة الطبية إلى جانب الطب المؤسّسي، الذي أصبح يضمّ مستشارين وعلماء لديهم حقائق مفصّلة عن الجسد، مَوْضَعة الجسد، أي جعله مجرّد موضوعٍ أو كيانٍ طبيعيّ يتم إنتاجه في الخطاب الطبي.
هذا الخطاب المتّسم شكلاً بالعلمية المتينة كانت غايته خلق نمط للأفراد، وترتيب حياتهم وفقاً لتصوّر الطب، وبالتالي خلق مجتمع تمّت هندسته طبياً لتوفير شروط تتناسب مع زيادة الإنتاج ومصالح السلطة السياسية، خاصةً بعد ظهور الرأسمالية وحاجتها لاستغلال كل إمكانات البشر في زيادة الإنتاج. وقد جاءت دراسته هذه للصحة ببعدين: سياسي وتاريخي.
السلطة البيولوجية ودولنة الصحة
رغم أنّ التكوين العلمي للطب بدأ خلال القرن الثامن عشر، إلا أنّ الاهتمام السياسي به، الذي يرتبط بتدخّل الدولة بالصحة والمرض، قد سبقه بقرن. بل يذهب فوكو إلى أبعد من ذلك بكثير، ويقول بوجوده عند الرومان قديماً، حيث كان للملك الحق في إحياء وإماتة الرعية، وفقاً للقانون، بل إنّ حياة وموت الرعية لا يصبحان حقاً إلا بإرادة الملك.
يشير فوكو إلى أنّ هذه السلطة على الحياة التي تتمثّل بالحق بالإماتة وبالإبقاء على قيد الحياة، سيتم استبدالها في المجتمع الحديث بسياسة حيوية جديدة: سلطة الإحياء بدلاً من الحق في الإماتة، ورفض الموت بدلاً من الحق في الإبقاء على قيد الحياة. وقد حدث هذا التبدّل بعدما بدأت الدولة في التدخّل بالصحة، وفي تدبير الحياة وفي التحكّم بجودتها وطولها ومستواها، من خلال "مأسسة التدخّل السياسي بتدبير الصحة"، كما يسميه فوكو، الأمر الذي أصبح لاحقاً مقياساً لجودة الأنظمة السياسية وسوئها، فإذا كانت الأنظمة تهتمّ بالمستشفيات والصحة فهي أنظمة جيدة، والعكس صحيح، ويكمن هنا جوهر البعد السياسي للصحة. وفي سبيل ذلك قامت الدولة باستحداث آليات وتقنيات متنوعة لبناء الاستراتيجيات الحيوية، وأهم هذه الآليات: الانضباطية والتنظيمية.
تتجسّد الانضباطية بآليات الرقابة التي تنظر إلى الجسد باعتباره آلة، فتقوم بترويضه وتدجينه، تزيد من كفاءته، تعمل على سلبه قواه، وعلى نموّه المتوازن، وعلى قيادته ودمجه في منظومات المراقبة الفعالة والاقتصادية، بهذا المعنى تقوم السلطة بتحديد الانضباطات.
أما التنظيمية فنتبيّنها بكل ما له علاقة بنظام التأمين الصحي والضمان الاجتماعي والشيخوخة والقوانين والتعليمات التي تضمن رفع جودة الحياة وزيادة متوسّط الأعمار. وغاية السلطة من هذه الآليات هي التحكّم بنسب الولادة والوفيات، والموازنة بين الظواهر السكانية والتقدم الاقتصادي، إضافةً إلى تجنّب الموت الذي يتربّص بالإنسان عبر تاريخه بأكمله، بالأوبئة والمجاعات التي كانت تبيد شعوباً بأكملها.
ثمّة أهمية بالغة للظواهر المتمثّلة بمعدّلات الوفيات والولادات والخصوبة ومتوسّط الأعمار وحدوث الأوبئة، خاصةً بعد ظهور الرأسمالية وولادة الطبقة البرجوازية، بما هي مجموعة تقع في قلب عملية الإنتاج وكفاءتها، فأيّ اعتلال عام، كحدوث الوباء مثلاً، سيؤدي لضعف الإنتاج، ولانخفاض أوقات العمل، وتدنّي مستويات الطاقة، ونقص العلاج وارتفاع التكاليف الاقتصادية، عدا عن خسارة الموارد البشرية المنتجة. وهذا يعني أنّ ولادة السلطة الحيوية في القرن الثامن عشر، والمنوطة بمراقبة الأجساد والمحافظة عليها، كانت ضرورة رأسمالية محمولة بدافع سياسي واقتصادي.
يشير ميشيل فوكو إلى أنّ انتقال المرض من البيت إلى المستشفى، يجعل من الجسد عبئاً مزدوجاً، فالدولة مجبرة على توفير المستشفى والطبيب والإجراءات والعلاج وما إلى ذلك، وبالمقابل فإن هذا الفرد الذي كان يعمل كي يبعد أسرته عن الفقر والجوع، أصبح في المستشفى يتلقى الرعاية الطبية فحسب، وهو ما ينعكس على وضع الأسرة أيضاً، ولذلك فالأمر لا يرتبط فقط بكلفة الإنتاج وإنما بالعجز عن الإنتاج أيضاً.
ولادة المستشفى: الأسرة الجديدة
سابقاً كان الجسد المريض يلتزم بيته، وكانت مهمة الأسرة احتواؤه والعناية به، إلا أنه مع ظهور المستشفى كبنية حضارية جديدة جرى استبدال الأسرة بالمستشفى، في الوقت نفسه الذي تدخلت فيه الدولة في الطب عبر دولنة الطب أو تأميمه، فأصبحت صحة الجسد من اختصاص الدولة، وهي التي توظّف الأطباء والممرضين، وتمنع الأوبئة، وتعيّن أفراد الشرطة، وتراقب المناجم والمقابر وتضع هيئات من المراقبين الصحيين لضمان جودة الصحة.
وجود هذه الوظيفة السياسية المهمة للصحة شكّل مبرّراً للدولة لتحتكر "تدبير الأجساد" وتفرض سلطة رقابية جديدة، وهنا يكتسب الجسد معنىً جديداً، تاريخاً جديداً و"اقتصاداً سياسياً" جديداً وقابلية جديدة للخضوع لسلطة الدولة. ودولنة الصحة هذه وضعت استراتيجيات انضباطية للعناية أو للقمع، للعلاج أو للاعتقال. كانت المستشفيات في بداياتها مختلفة عما هي عليه اليوم، إذ كانت مجرّد مؤسسات لممارسة العنف والمراقبة والنظام. فالأهمية السياسية للمستشفى كانت تفوق الأهمية الطبية، وليس مهماً أن يكون الطب فعّالاً علاجياً بقدر أهمية أن يكون فعّالاً سياسياً، وعليه نستطيع أن نستنتج أنّ الوظيفة الأولى للطبيب سياسية، تتمثّل في محاربة الحكومات الفاسدة، التي في ظلها تكثر الأمراض، حسب فوكو، وبغيابها نصبح أقل عرضةً للأمراض ومسبباتها.
ويسهب المفكر الفرنسي في شرح كيفية انتقال مجال الصحة من حضن الكنيسة إلى العلوم، من خلال ما سمّاه "علمنة الصحة"، وكيف استغلت الدولة هذه العلمنة لتحديث المجتمع وتحديث نفسها، كما يحفر في مفهوم المرض عبر التاريخ، حيث كان يشمل المثليين والملحدين والمتسوّلين وغيرهم، ويسهب في كيفية تطوّر وعي السلطة وآلياتها في التعامل مع المريض، عبر التاريخ، من القتل والنفي والإلقاء بهم في عرض البحر، من سفينة الحمقى، إلى الحجز والاعتقال، وصولاً للعلاج أو الإصلاح. الأمر ذاته ينطبق على السجن. كما يتتبّع فوكو التجارب الطبية التي شكلت قطيعةً وانفصالاً جديداً، وقارئ فوكو يعرف هذه القطائع الابستيمية الفوكوية جيداً، فهي موجودة بكل أعماله.
كيف يرى فوكو علاقة الطبيب بالمريض؟
يصف فوكو هذه العلاقة التاريخية بأنها قائمة على الإقصاء والعنف، لأن المعرفة الدقيقة بالمرض والوصول إلى حقيقته وجوهره، لا تكون إلا من خلال تجريد المرض وعزله، وبالتالي إقصاء المريض من حلقة العلاج. فالطبيب لا يهتم بالجسد المرئي للمريض، والمريض لا يمثل إلا التمظهر الخارجي للمرض، العلاقة مبنية على أساس الطبيب العالم بالمرض مقابل المريض الجاهل بمشكلته، ما يهمّ الطبيب هو ما يوجد داخل جسده لا ما يقوله، إلا أن الأطباء، بتعبير فوكو، مجبرون على "التعايش كتشويش لا يمكن تجنّبه".
إنّ هذا الكتاب إجمالاً كتاب عن الطب وليس في الطب، وعن المجتمع وليس في الاجتماع، وعن السياسة وليس في السياسة، وعن التاريخ وليس في التاريخ، وعن الفلسفة وليس في الفلسفة، إنه كتاب عن كل شيء وليس في أيّ شيء.