سركون في ذكرى رحيله السابعة: تذكّر المستقبل

22 أكتوبر 2014
+ الخط -

ما من شاعرٍ أمضى ثُلثي عمره في المنفى، وظلّ مسكوناً بماضيه وماضي بلاده، مثل سركون بولص، هذا المترحّل الآشوري. العراق يقيم إقامة دائمة في أحشائه، في النقطة العميقة. ولأنه كذلك، فهو يحضُر في معظم قصائده تقريباً، حتى تلك التي تستبطن تجاربه الاغترابية في أميركا وأوروبا. فهو يكتبها بآلام ماضيه، وبعين الغريب، لا المقيم القاطع حبل الجذور.

ستلمس هذه الخلاصة حين تعاشره شخصياً، فهو شاعر تجارب لا ذهن. شاعر استغراق في المعيش، لا يتمثّله أو يتخيّله، فيستدعيه كما يفعل المستمني ـ لكنّ الأهم من هذا، أنك ستلمسها في متنه الشعري.

لم أقرأه كاملاً إلا هذه السنة، حين توفّر لي مجلداهُ على الشبكة، فأعطيته ما يستحق من اهتمام، بعد أن غدوت مثله على الضفة الأُخرى. وبعد قراءة متأنية على مدى حوالي الشهر، أحسست بما سبق.

ثمة فجيعة غائرة في طبقات النصّ السركوني. زاويةُ النظر تأخذه دائماً نحو الأسى، حتى وهي تتكلم عن لذة أو بهجة أو إشراق. حتى وهي تراكم خبراتها وثقافاتها، فتحتدّ أو تخفت، لكنها في معظم الأحوال لا تتبدّل.

وعليه، يسهل الاستنتاج بأنّ حبل السرة بينه وبين بلده وماضيه لم ينقطع. بل أرى هذا الحبل، في متن القصيدة أو في خلفيّتها، سواء بسواء.

أعرف الآن فقط، أنني أمام شاعر حسّيّ بكليّته، وشجِيّ في الآن ذاته. هو من قلّةٍ اجترحوا هذه المعادلة الصعبة، بالمعنى الرفيع للكلمة.

أيّ شجىً، بل قل أيّ شجنٍ، تفيض به القصيدة السركونية؟

الشعر حيوان خسارات في المقام الأول. والتحدي الأكبر أمام كل شاعر، هو النجاح في تحويل الخسارات، سواء الشخصية أو الوجودية (وهل ثمة فاصل بينهما حقاً؟) إلى ندىً شعريّ. وندىً بمقدار، كي تحافظ القصيدة على معمارها ومضمونها، على هدفها، فلا تنزلق نحو تهويم أو ميوعة أو فائض غنائيّ.

غنائي؟ إلا هذه الكلمة مع سركون. إنه المحلّق في سماء النص وقدماه في وحل الكوكب. وتلك علامته، بصْمته ولا مَن يضاهيه.

هذا جانب، وما أكثر جوانب شعره. أما من جانب ثانٍ، فقد لفتني أنه يسرد، كما لم يفعل سابقوه أو مجايلوه، خاصة في كتابه الشعري الأخير. هل يعود منزعٌ كهذا لكونه بدأ قاصاً ونشر أربع عشرة قصة في الآداب وغيرها؟ لا أظنّ. فسركون يشتغل على "السرد" هنا، بأدوات وحساسية الشاعر، لا القاص.

إنه الفريد النفيس في المشهد الشعري العربي، أظنّ، بل أبعد من الظنّ، أحدس، ولي أسبابي، بأنه سيكون شاعر المستقبل؛ أكثر من أي شاعر كتب قصيدة النثر في جيله.

قصيدته تزداد لمعاناً ونفاسةً، كلما أوغلت في ليل الزمن. هي بنت زمانها الوفية، عرفت كيف تكتب زمنَها فتكسب إلى جانبها الأزمان الآتية.

شعراء كُثُر بهتوا، اخفتوا، وحتى تواروا، بعد موتهم. شعراء "ملأوا الدنيا وشغلوا الناس" في وقتهم، ثم اختفوا. أما هو الذي لم يشغل ولم يملأ ولا كان معنيّاً، فسيبقى.

الشاعر الواضح وضوح الذهب.

شاعر الذهب.

صاحب درْس: "كيف تكتب حنينك، ولا يلفظك الفن"؟

ولا توجد فرصة لتفصيل استنتاجٍ كهذا بالرجوع لمقاطع من شعره، ولكن علينا بأعماله الكاملة، لنرى ونحسّ.

أهلاً بك ضيفاً عزيزاً على مستقبل شعرنا يا سركون.
___________________

جئت إليك من هناك - سركون بولص 

المساهمون